منتديات حجازة التعليمية
ضيفنا الكريم
حللت أهلاً .. ووطئت سهلاً ..
أهلاً بك بين اخوانك واخواتك
آملين أن تلقى المتعة والفائدة معنا
حيـاك الله
نتمنى أن نراك بيننا للتسجيل
مع خالص التحية بدوام الصحه والسعاده
ادارة منتديات مدرسة حجازةالثانوية المشتركة
منتديات حجازة التعليمية
ضيفنا الكريم
حللت أهلاً .. ووطئت سهلاً ..
أهلاً بك بين اخوانك واخواتك
آملين أن تلقى المتعة والفائدة معنا
حيـاك الله
نتمنى أن نراك بيننا للتسجيل
مع خالص التحية بدوام الصحه والسعاده
ادارة منتديات مدرسة حجازةالثانوية المشتركة
منتديات حجازة التعليمية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
البوابةالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 قصة الاسلام الجزء8

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
اسامه جاد
مشرف سوبر
مشرف سوبر
اسامه جاد


ذكر عدد الرسائل : 3356
العمر : 53
العمل/الترفيه : معلم اول احياء وعلوم بيئه وجيولوجيا
نقاط : 13556
تاريخ التسجيل : 14/02/2009

قصة الاسلام الجزء8 Empty
مُساهمةموضوع: قصة الاسلام الجزء8   قصة الاسلام الجزء8 I_icon_minitimeالثلاثاء ديسمبر 15, 2009 7:47 pm

9-عام الحزن

بدأ العام العاشر من البعثة بمرض الشيخ الكبير أبي طالب، الرجل كان قد جاوز الثمانين من عمره، وقد أمضى ثلاث سنوات محاصرًا مع قومه في الشِّعب في مشقة بالغة من أكلٍ لورق الشجر والجلود، مع الحذر والترقب والقلق، كل ذلك أرهق الشيخ الكبير، وازداد عليه المرض وبدأ الناس في مكة يقولون إن هذا هو مرض الموت.

واجتمع زعماء الكفر من جديد - البرلمان المكي - وتشاوروا فيما بينهم وقالوا: إنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون إليه - أي الرسول - شيء فتعيرنا به العرب، ويقولوا: تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه.

أي أن قريشًا تخاف أن تقوم بإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت أبي طالب، فتعيرها العرب بأنها استغلت موته لإيذاء ابن أخيه، ولم تكن تقدر على ذلك في حياته، وهذه بقية حياء في زعماء الجاهلية، فقده كثير من أهل الباطل بعدهم.

فكرت قريش ماذا تفعل؟ ثم قرروا أن يذهبوا إلى أبي طالب ليقدموا له تنازلاً جديدًا غير التنازلات السابقة التي عرضها عتبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في محاولة للالتقاء في نصف الطريق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كوّن زعماء قريش وفدًا مهيبًا مكوَّنًا من معظم رجال الحكومة في مكة، كان الوفد مكونًا من خمسة وعشرين رجلاً، كان منهم: أبو جهل بن هشام، وأبو سفيان بن حرب، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف وغيرهم، فدخلوا جميعًا على أبي طالب وهو على فراشه فقالوا: يا أبا طالب، إنك منا حيث قد علمت وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك فادعه، فخذ له منا وخذ لنا منه، ليكف عنا ونكف عنه، وليدعنا وديننا وندعه ودينه.

عرض مغرٍ من زعماء مكة، سيصبح لرسول الله صلى الله عليه وسلم جماعته الإسلامية في مكة ويصبح لأهل الكفر جماعتهم الكافرة هناك، ويعيش هؤلاء وهؤلاء دون أن يتعرض أحد لدين غيره، سيرفع أهل مكة الأذى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، سيتيحون لهم حرية العبادة، لكن في مقابل أن لا يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في معتقدات أهل مكة، أن لا يُسَفّه آلهة قريش، أن لا ينكر عندهم منكرًا ولا يأمر عندهم بمعروف، أن لا ينصح أحدًا بتطبيق أحكام الله على عباد الله، أن لا يتكلم في السياسة، ولا في الحكم ولا في المعاملات ولا في غيرها، فقط يصلون كما يريدون أن يصلوا، ويعتقدون فيما يريدون أن يعتقدوا فيه، ويفصلون بعد ذلك دينهم عن دنيا مكة، فهي إذن علمانية.

في الوضع الضعيف الذي كانت فيه الدعوة الإسلامية في ذلك الوقت، وقد خرجوا منذ شهور قليلة جدًّا - أقل من ستة أشهر - من الحصار الاقتصادي المريع الذي مر بهم، وفي ضوء السيطرة العسكرية لزعماء قريش على مكة والزيادة العددية لقوات أمنهم، ومع الأخذ في الاعتبار أن نصف الطاقة الإسلامية مهاجرة على بُعد مئات الأميال في الحبشة، في ضوء كل هذه الاعتبارات فإن هذا العرض يعتبر في نظر الكثيرين فرصة، ولو فرصة مرحلية.

لكن في المقابل لو أقرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنازل أو بأمر ما فإنه سيصبح ملزمًا به، فإن استمر على إقراره خسرت الدعوة بعد ذلك الكثير، وإن خالف إقراره كان خائنًا لعهده منكرًا لمواثيقه، وهذا ليس من شيم الصالحين.

إذن الداعية الذي ينظر إلى الأفق البعيد لا يجب أن يقدم تنازلاً في عقيدته أو في دينه أو في شرعه لن يستطيع بعد ذلك أن يستعيده، بل عليه أن يصبر ويثبت وإن كان ظاهرًا أمام العين أن الخسائر كبيرة، وهذا فارق ضخم بين ساسة الدنيا وساسة الآخرة، ساسة الدنيا يسيل لعابهم لأي مكسب أو نصر أو خطوة أمامية، وساسة الآخرة يقيسون الأمور بميزان السماء لا بميزان الأرض، وهذا يعطي لهم ثباتًا على المبدأ ووضوحًا في الرؤية.




ماذا حدث عند أبي طالب؟


إن أبا طالب يريد أن يطمئن على ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت، وهو لا يأمن أهل قريش فأراد أن يوفق بين الطرفين، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه فقال: يابن أخي، هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك، ثم أخبره بالذي قالوا، وبالذي عرضوا عليه من عدم تعرض كل فريق للآخر ووقف مكة للأذى على أن تقف الدعوة.

قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عم، أفلا تدعوهم إلى ما هو خير لهم؟"
قال أبو طالب: وإلامَ تدعوهم؟
قال: "أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة واحدة تدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم". ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا الكلام والمشركون يستمعون، فتسمرت أقدامهم ودقت قلوبهم وسال لعابهم، ما هذا؟ كلمة واحدة تدين لنا بها العرب ونملك بها العجم، إن أهل قريش ما حلموا يومًا بوحدة العرب تحت قيادة واحدة، ما توقعوا يومًا أن يكون أحدهم ملكًا على العرب جميعًا، وفوق ذلك يملكون العجم!! إن هذا فوق التخيل وفوق الأحلام، لقد كانت أقصى أحلام أحدهم أن يقف ذليلاً أمام كسرى أو قيصر، فقط يقول: دخلت إيوان كسرى أو وقفت أمام عرش قيصر. وفي قصة هرقل مع أبي سفيان كما سيأتي في أحداث المدينة المنورة خير دليل على ذلك، فقد كان الزعيم القرشي العزيز الشريف، يقف ذليلاً جدًّا أمام قيصر يستجوبه بدقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أوقف قيصر أبا سفيان أمامه ووضع خلفه مجموعة أخرى من رجال قريش ليكونوا شهداء على أبي سفيان إذا كذب، وفي هذا إهانة كبيرة جدًّا لزعيم بني أمية، ولكن كانوا يقولون: أين نحن من هؤلاء؟

أما الآن فهم يستمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمر عجيب، أنهم سيقولون كلمة واحدة تدين لهم العرب ويملكون بها العجم، الفرس والروم وغيرهم، وهم ما جربوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبًا من قبل، فماذا يفعلون؟

لم يتردد أبو جهل كثيرًا، وتشوق لمعرفة هذه الكلمة فقال كلمة عجيبة، قال بلهفة: ما هي؟ ثم أقسم: وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبات: "تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه".

فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟ إن أمرك لعجب.

ثم إن بعضهم قال لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئًا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه. ثم تفرقوا.

مساكين هؤلاء الكفار، مساكين هؤلاء الذين عاشوا يقاتلون من أجل قضية خاسرة، مساكين هؤلاء الذين أغلقت عقولهم وقلوبهم فلم تذق طعم الإيمان، يتعبون ويسهرون ويكيدون ويدبرون ويحزنون ويتألمون ثم ماذا تكون النتيجة لهذا التعب والسهر الكد والعرق والحياة الضنك؟!

[وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا] {طه: 124}.

مثل تلك المعيشة التي كان يعيشها هؤلاء التعساء في اجتماعات ومؤتمرات ولقاءات وتدبيرات وترتيبات وحذر وترقب وهلع، لا تطمئن قلوبهم، ولا تهدأ جوارحهم، لا يستطيعون نومًا هادئًا، ولو نام أحدهم بات حوله من يحرسه، ثم هو مع ذلك غير مطمئن ولا آمن، ما أبلغ الوصف الذي وصفه رب العالمين لهذه الطائفة من البشر التي جعلت همَّها وقفَ الدعوة إلى الله عز وجل [فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ] {طه: 124}، وفوق ذلك [وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى] {طه: 124- 127}.

رفض الكافرون كلمة لا إله إلا الله، وأنزل الله عز وجل في حقهم سورة ( ص) [ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ] {ص: 1- 7}.

ولا شك أن الصحابة كانوا يعيشون مع سورة ص بطريقة غير الذي يقرأ بها الآيات وهو لا يعيش معناها، فارق ضخم بين الذي يقرأ القرآن للبركة والحسنات فقط، وبين الذي يقرؤه ليتخذه منهاجًا ودليلاً وإمامًا ومرشدًا. لا شكَّ أن الصحابة قد أدركوا - وهم مدركون - من قبل القيمة الحقيقية لهذه الكلمة البسيطة في حروفها العميقة في معانيها وآثارها، كلمة لا إله إلا الله.

روى الترمذي وحسنه وابن حبان والبيهقي والحاكم وصححه وابن ماجه وأحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلاًّ، كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لاَ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لاَ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لاَ ظصلى الله عليه وسلمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ. فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاَّتِ؟ فَقَالَ: إِنَّكَ لاَ تُظْلَمُ. قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كَفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلاَّتُ، وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ، فَلاَ يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ".

والصحابة - رضوان الله عليهم - قالوا الكلمة بصدق ويقين، قالوا لا إله إلا الله، وخلعوا من حياتهم كل ما ينافي هذه الكلمة، قالوها بألسنتهم وقلوبهم وعقولهم وجوارحهم، قالوها بالحروف وقالوها بالأفعال، فدانت لهم العرب وملكوا بها العجم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] {النَّجم: 3، 4}.

كلمة واحدة تعطونها تدين لكم بها العرب وتملكون بها العجم. هذه الكلمة عندما قالها الصحابة - رضوان الله عليهم - جمعوا العرب جميعًا تحت راية واحدة، ثم تجاوزوا العرب إلى غيرهم، سقطت عروش كسرى وقيصر وغيرهم من ملوك الأرض بجيش لا إله إلا الله، وفتحت بقاع لا تحصى ولا تعد بلا إله إلا الله، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، بلا إله إلا الله.

هذا ليس خاصًّا بالصحابة فقط، هذا الفتح والنصر والتمكين لكل من قال لا إله إلا الله بصدق وعمل بها، والذي لم يجعل منهجه (لا إله إلا الله) كان مصيره أن يُسحب بعد ذلك في قليب بدر، ذلة في الدنيا وذلة في الآخرة.

نتيجة هذا الموقف الذي حدث بين زعماء قريش وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدث ما يمكن أن يسمَّى بقطع العَلاقات، ووقف المفاوضات، وتجمّد الموقف نسبيًّا في مكة.

وفاة أبي طالب


ثم حدثت للمسلمين مصيبتان كبيرتان في وقت محدود، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وتوقيت هاتين المصيبتين صعب جدًّا، فالدعوة الآن في فترة من أحرج فتراتها، ولكن تلك هي حكمة الله عز وجل، وسنحاول معًا - إن شاء الله - بعد طرح ما حدث في هاتين المصيبتين أن نستنبط طرفًا من حكمة الله عز وجل في هذا الأمر.

المصيبتان كانتا وفاة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي طالب السند الاجتماعي المهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ووفاة السيدة الفاضلة العظيمة خديجة رضي الله عنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم والسند العاطفي والقلبي المهم جدًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

اختلف المؤرخون في تحديد أي المصيبتين حدث أولاً، منهم من قال قد تقدم موت أبي طالب لأنه حدث بعد الخروج من الشعب بستة أشهر، أي أنه حدث في رجب من السنة العاشرة، ثم وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها لأنه اشتهر أنه حدث في رمضان من السنة العاشرة للنبوة. ومنهم من قدم وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها وجعل موت أبي طالب في شوال بعد السيدة خديجة بخمسة وثلاثين يومًا في بعض الروايات.

والمسألة فيها تفصيل وبحوث وإن كانت لا تهم كثيرًا؛ لأن المصيبتين حدثتا في وقت قريب جدًّا من بعضها البعض، وكانت آثارهما مشتركة.

والموت مصيبة كما سماه الله عز وجل في كتابه حيث قال: [فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ] {المائدة: 106}. ولكن إن كان الموت بصفة عامة مصيبة فموت السيدة خديجة وأبي طالب كان مصيبة كبيرة جدًّا، وخاصة لقربهما من بعضهما البعض، مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الذي اشتهر بالتفاؤل والتخفيف عن أصحابه - يطلق على هذا العام الذي مات فيه أبو طالب والسيدة خديجة وهو العام العاشر من النبوة، يطلق عليه عام الحزن.

مَن كان أكثر من يدافع عن رسول الله ويساعد المسلمين؟ إنه أبو طالب؛ لذا يجب أن يختفي أبو طالب من مسرح الأحداث كي لا يظن أحد أن الدعوة قائمة عليه، وليعلم الجميع أن الدعوة مستمرة؛ لأنها دعوة الله عز وجل.

أما موت أبي طالب فكان مأساويًّا إلى أبعد درجة، لا لأنه مات فقط، ولا لأنه كان ناصرًا للدعوة حاميًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، دافعًا لكيد أهل قريش من الكافرين، جامعًا لبني هاشم وبني المطلب حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، مؤيدًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم باللسان والسنان، مات كافرًا، مات على غير الحق الذي طالما دافع عنه.


لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل. رسول الله صلى الله عليه سلم يعلم الحق بكامله وبكل أبعاده، يعلم أنه سيأتي يوم يحاسب فيه أبو طالب على أعماله، فإن كان مشركًا لم تنفعه أعماله، وإن آمن بدلت سيئاته حسنات، وهو قادم على الموت لا رجعة بعده، وهي إما نار أبدًا، وإما جنة أبدًا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه وقلبه يتفطر ألمًا عليه، أبعد كل هذا الدفاع والكفاح والتعب يخلد في النار؟ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب عمه حبًّا جمًّا، وكان يسابق الزمن ليذهب إليه قبل أن يموت يدعوه إلى الإسلام للمرة الأخيرة، ودخل عليه فعلاً قبل أن يموت وتنفس الصعداء لما وجده ما زال حيًّا، ولكن وجد بجواره فرعون هذه الأمة، يزوره في مرضه الأخير، لا للاطمئنان على صحته ولكن للاطمئنان على وفاته كافرًا بإله محمد صلى الله عليه وسلم، فلو آمن أبو طالب حتى قبل موته بلحظات فإن هذا سيكون ضربة قاصمة للكفر بمكة، وقد تؤمن قبيلة بني هاشم وبني المطلب إما اقتناعًا برأي أبي طالب وإما حمية له؛ ولذلك فأبو جهل يقف على رأس أبي طالب، يبذل مجهودًا ووقتًا وعرقًا من أجل الصد عن سبيل الله.

دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه فقال (كما جاء في صحيح البخاري): "أَيْ عَمِّ، قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ". فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟

يذكره بالتقاليد الموروثة وبديانة الأب، وكم أهلكت التقاليد من البشر، وأبو طالب يقف حائرًا بين الداعيتين، داعية الخير وأعظم الخلق وأبلغ البشر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وداعية الشر فرعون هذه الأمة وإمام الضلال أبي جهل لعنه الله.

فَلَمْ يَزَالاَ يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.

أي عبادة الأصنام، لا حول ولا قوة إلا بالله! غصة شديدة في حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو يرى مدى الجهد والنصب الذي تعرض له أبو طالب من أجله ولحمايته وإعطائه حرية التبليغ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ". فَنَزَلَتْ:

[مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ] {التوبة: 113}. لا حول ولا قوة إلا بالله!!

وأصبح أبو طالب من أصحاب الجحيم، خلود ولا موت وأين؟ في الجحيم.

روى البخاري عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ؟ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ. قَالَ: "هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ ( في جزء قليل، فُسِّر في حديث آخر بأن النار تصل إلى كعبيه فقط ولكن يغلي دماغه من هذه النار، نسأل الله العافية)، وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ".

وطبعًا رسول الله صلى الله عليه وسلم شفع له لا لقرابته ولكن لعمله، بدليل أنه لم يشفع لأبي لهب مثلاً وهو أيضًا عمه.

ونحمد الله سبحانه وتعالى على نعمة الإسلام، وهي نعمة لا يقدرها ولا يشعر بها كثير من الناس الذين يرددون كلمة التوحيد دون فهم.


تجرؤ قريش على رسول الله بعد وفاة أبي طالب
كان موت أبي طالب سببًا في تغير الموقف في مكة تغيرًا كبيرًا، فقد كان لأبي طالب مكانة كبيرة في مكة خاصة وأنه كان على دينهم، فقد تجرأ الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم تجرُّؤًا غير مسبوق، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَا نَالَتْ مِنِّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ".

فمع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تعرض قبل ذلك لإيذاء من أهل مكة في حياة أبي طالب إلا أنه اعتبره وكأنه لم يكن، بالقياس لما حدث بعد وفاة أبي طالب.

اعترض سفيه من سفهاء قريش طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فنثر على رأسه التراب، فدخل بيته صلى الله عليه وسلم والتراب على رأسه الشريف، فقامت إليه إحدى بناته، وجعلت تغسل التراب وهي تبكي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: "لاَ تَبْكِي يَا بُنَيَّةُ، فَإِنَّ اللَّهَ مَانِعٌ أَبَاكَ".

بل حدث ما هو أشد، فكما روى البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالأَمْسِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلاَ جَزُورِ بَنِي فُلاَنٍ فَيَأْخُذُهُ فَيَضَعُهُ فِي كَتِفَيْ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ (وفي رواية أنه عقبة بن أبي معيط)، فَأَخَذَهُ، فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ. قَالَ: فَاسْتَضْحَكُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ، لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ولاحظ الحسرة الشديدة في كلام ابن مسعود رضي الله عنه، عبد الله بن مسعود ليس له منعة في مكة ولن يبكي عليه أحد، ولو قام يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتل، وسيصبح تقدمه مخالفة واضحة؛ لأنهم مأمورون بالتكتم وتجنب إثارة الفتن أو الحرب، ولذلك اجتهد عبد الله بن مسعود في أن لا يتحرك، وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وسكوته يعني رضاه على تصرف ابن مسعود رضي الله عنه) وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ، فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ فَجَاءَتْ وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَتَهُ رَفَعَ صَوْتَهُ، ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ - وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلاَثًا، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلاَثًا - ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ" ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمْ الضَّحْكُ، وَخَافُوا دَعْوَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ"، وَذَكَرَ السَّابِعَ وَلَمْ أَحْفَظْهُ. (وفي رواية أخرى أنه عمارة بن الوليد)، فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ، لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ.

ولا يخفى علينا مدى الألم الذي كان يشعر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الحادثة، فمع كل ما حدث له وللمؤمنين في السنوات العشر السابقة إلا أنه للمرة الأولى يقف ويدعو على قريش، ثم هو يسمي أسماء بذاتها قد تأكد عنده أنهم لا أمل في إيمانهم، فدعا عليهم بالهَلَكَة، ودعوة الأنبياء مقبولة ومجابة، وهذا أمر لا يتكرر في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا، حتى في موقف الطائف رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو على أهل الطائف بالهلكة، مع شدة إيذائهم له، ولعلَّ ذلك يرجع إلى أنه لم يدعهم للإسلام إلا لمدة عشرة أيام فقط هي التي قضاها في الطائف بينما ظل يدعو في مكة عشر سنوات، وقد ثَبَتَ هؤلاء الكفار على كفرهم ولم تردعهم الآيات المتتالية، وحتى بعد هذا الدعاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي كان بمنزلة إعلان الحرب عليهم، وغلق باب الدعوة لهؤلاء فإنهم لم يرتدعوا وصدق فيهم قول الله عز وجل:[وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا] {الإسراء: 60}.

وفاة السيدة خديجة



تزامنت مع مصيبة موت أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبة أخرى هي أشد وأعظم (أَشَدُّ النَّاسِ بَلاَءً الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ). لقد تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل صنوف الابتلاءات من فقد الأم والأب والجد والعم، تعرض للتكذيب والإيذاء، تعرض للإخراج من بلده ومحاولات قتله، تعرض للحروب والجهاد، تعرض للإساءة إليه من المنافقين، وحتى من بعض المسلمين، والآن يأتي ابتلاء آخر جديد، لقد ماتت السيدة العظيمة الكريمة الجليلة الشريفة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخديجة - رضي الله عنها - كانت نعمة من نعم الله عز وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت خير متاع الدنيا له، كانت السكن والراحة، كانت المودة والرحمة، كانت الصدر الحنون، كانت الرأي الحكيم، كانت صورة رائعة للمرأة الصالحة، كانت السيدة خديجة رضي الله عنها بحقٍّ فخرًا لكل امرأة.

حياة امتدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرين عامًا متصلة، ربع قرن كامل، لم تنقل كتب السيرة خلافًا واحدًا حدث بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم تنقل كتب السيرة غضبًا ولا هجرًا، لم تنقل طلبًا من السيدة خديجة لنفسها، لقد عاشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، عاشت تؤازره في أحرج أوقاته، تعينه على إبلاغ رسالته، تهُوِّن عليه الصراع الذي دار بينه وبين كفار مكة، تواسيه بمالها ونفسها، تجاهد معه بحق كما لم يجاهد كثير من الرجال.

يتحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حب عميق، فيقول كما جاء في مسند الإمام أحمد برواية السيدة عائشة رضي الله عنها، قَالَ: "مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلاَدَ النِّسَاءِ".

ثم بعد كل هذا الارتباط الوثيق، أَذِنَ الله عز وجل بالرحيل، ماتت خديجة رضي الله عنها.

موت الزوجة بصفة عامة مصيبة، الرجل مسكين، مسكين فعلاً بغير زوجته، فإن كانت العشرة بينهما طويلة كان الفراق أصعب، فإن كانت الزوجة صالحة كان الفراق أصعب وأصعب، فما بالكم لو كانت الزوجة واحدة من أعظم نساء الأرض! مصيبة كبيرة، كبيرة.

روى الترمذي عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ: مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ". قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وروى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ خُطُوطٍ. قَالَ: تَدْرُونَ مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ". رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَجْمَعِينَ.

السيدة خديجة رضي الله عنها قيمة كبيرة جدًّا في الميزان الإسلامي، من الصعب علينا أن نتخيل قدرها.

روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ - أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ - فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنْ رَبِّهَا (الله!! تخيَّل أن الله عز وجل أرسل جبريل عليه السلام ليبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل في عليائه يُقْرِئ السيدة خديجة السلام) وَمِنِّي، (ليس هذا فقط بل يكمل جبريل ويقول) وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ (أي من لؤلؤ مجوف أو ذهب منظوم بالجوهر) لاَ صَخَبَ (أي لا صوت مرتفع) فِيهِ، وَلاَ نَصَبَ (أي لا تعب)".

درجة عالية جدًّا من درجات السمو.

هذه السيدة، بهذا القدر، وبهذه القيمة، وبهذه المكانة، فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي وقت هو من أحرج أوقات الدعوة على الإطلاق.

ولهفِي عليك يا رسول الله، كيف تحمّل قلبك الرقيق الحنون العطوف كل هذه المصائب، وقد بلغت الخمسين من العمر، ووهن العظم، وكثرت الهموم، وصَعُبَ الطريق، وأظلمت مكة.

- السيدة خديجة رضي الله عنها ماتت.
- أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يحوطه ويمنعه مات، وليس هذا فقط بل مات مشركًا، وهذه مصيبة في حد ذاتها.

- كاشف كفار مكة ومجرموها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذى والتجريح.

- الأصحاب في مكة مستضعفون.
- بقية الأصحاب، فوق الثمانين منهم، على بُعد مئات الأميال في الحبشة.

- هموم وأحزان بعضها فوق بعض، وأصبح العام بحق عام الحزن.

في هذا الجو المظلم الكئيب، ماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

لقد أغلقت تقريبًا أبواب الدعوة في مكة وتجمد الموقف، ولم يعد هناك كبير أمل في إسلام رجل من أهل مكة في هذه الظروف، أيأتي زمان وتقف الدعوة؟!

أبدًا، إن دعوة الله عز وجل لا يمكن أن تقف، قد تختلف الوسيلة، قد يختلف المكان، ولكنها أبدًا لا تقف. والرسول صلى الله عليه وسلم لا يتحمل توقف الدعوة؛ فهي بالنسبة إليه كالماء والهواء حتى إن الله عز وجل عاتبه في شدة حزنه على عدم استجابة الناس [لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] {الشعراء: 3}.


الرسول صلى الله عليه وسلم يتجه إلى الطائف


فكَّر رسول الله صلى الله عليه سلم - وللمرة الأولى منذ البعثة - أن يخرج بدعوته خارج مكة، يذهب إلى بلد آخر يدعوهم إلى الإسلام يطلب نصرتهم ومساندتهم. قبل ذلك لم يكن يخرج من مكة؛ لأن أبواب الدعوة كانت مفتوحة فيها ولو بمشقة ولو بصعوبة، وهذا أمر في غاية الأهمية؛ فالداعية لا يترك مكانه إلا إذا استحالت عليه الدعوة فيه، أما غير ذلك فمكانه الأساسي مع من يعيش معهم من الناس.

من جديد نعيد الكلمة المهمة التي ذكرناها من قبل في أكثر من موضع "فقه المرحلة".

هذه مرحلة جديدة من مراحل الدعوة، يعلمنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهجًا يناسبها، إذا أغلقت أبواب الدعوة تمامًا في بلد فلتذهب إلى بلد آخر، المسلم لا يجلس مستكينًا ضعيفًا يقول: قدر الله وما شاء فعل، لقد منعوا الدعوة.

أبدًا، المسلم له رسالة واضحة أن يُعَبِّدَ الناس - كل الناس - لله رب العالمين، فإن لم يكن هنا فهو هناك، وإن لم يكن هناك فهو في غيرها وهكذا، أما قبل غلق أبواب الدعوة في البلد فالدعوة فيه أولى، فهو ثغر تقف عليه، والأقربون أولى بالمعروف، والمسئولية نحو أهل البلد أعلى من المسئولية نحو غيرهم.

فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يخرج ليدعو بلدًا آخر إلى الإسلام ويطلب نصرة أهله وتأييدهم، فماذا اختار صلى الله عليه وسلم؟

لقد اختار صلى الله عليه وسلم مدينة الطائف.

أسباب اختيار الطائف:
لم يكن اختيار الطائف اختيارًا عشوائيًّا، بل كان اختيارًا مدروسًا ؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم كان سياسيًّا بارعًا وقائدًا محنكًا، يدرس كل خطوة بدقة شديدة، فالطائف تتميز عن غيرها من مدن الجزيرة بعدة صفات:


أولاً: تعتبر الطائف هي المدينة الثانية في الجزيرة العربية بعد مكة، ومركزًا حيويًّا مهمًّا من مراكز الكثافة السكانية والتجارة، ولها مكانة في قلوب العرب، حتى إن المشركين كانوا يقولون: [وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ] {الزُّخرف: 31}. والقريتان هما مكة والطائف.

ثانيًا: يسكن في الطائف قبيلة ثقيف، وهي من أقوى القبائل العربية ولو آمنت لكانت سندًا عظيمًا للدعوة بقوة جيشها وكثرة عددها، خاصة وأن الظاهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت أن قريشًا ستظل تحارب الإسلام في المستقبل، وقد بلغ من قوة ثقيف أنها القبيلة الوحيدة التي استعصى على المسلمين دخول بلدها عنوة حتى جاء أهلها - بعد ذلك - مسلمين طوعًا.

ثالثًا: المنافسة الدينية بين مكة والطائف كبيرة، فمكة وإن كان بها البيت الحرام وبها أيضًا الصنم الذي كان يقدسه كثير من العرب وهو هُبُل، فإن الطائف كان بها صنم آخر من أهم أصنام العرب وهو اللات، وكثيرًا ما كان يقسم به العرب على اختلاف قبائلهم. أما صنم العزى فكان في وادي نخلة على مقربة أيضًا من الطائف، فلو ذهب إليهم رسول الله صلى الله عليه سلم بدعوته فلعلهم يدخلون فيها طمعًا في سحب البساط من تحت أقدام أهل مكة.

رابعًا: الطائف قريبة نسبيًّا من مكة، المسافة حوالي مائة كيلو متر، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يبعد كثيرًا عن مركزه الأول والذي تعيش فيه طائفة كبيرة نسبيًّا من المؤمنين، التعاون والتنسيق بين المركزين سيكون أسهل لو كانت المسافة قريبة، وبالذات في هذا الزمن الذي كانت فيه المواصلات شاقة.

خامسًا: كان لأغنياء قريش أملاك في الطائف، وخاصة بني هاشم وبني عبد شمس وكذلك بني مخزوم، فلو دخلت الطائف في الإسلام لكان ذلك ضربة اقتصادية موجعة لقريش.

إذن في الحسابات البشرية كانت الطائف مكانًا مناسبًا للدعوة، ومن ثَمَّ عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم العزم على الذهاب إلى هناك، وكان ذلك في شوال من السنة العاشرة من البعثة، في نفس الشهر الذي مات فيه أبو طالب، أو في الشهر التالي حسب اختلاف الروايات، لا سكون، لا راحة.

المسافة بين مكة والطائف كما ذكرنا مائة كيلو متر تقريبًا، والسفر في شوال سنة10 من النبوة، وهو يوافق أواخر شهر مايو وأوائل شهر يونيو سنة619 ميلادية، يعني كانت درجة الحرارة آخذة في الارتفاع، وخاصة في هذه المنطقة الصحراوية المشهورة بشدة الحر، ومع ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرر أن يقطع هذه المسافة ماشيًا على قدميه. ولماذا يمشي على قدميه هذه المسافة الطويلة جدًّا؟ إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعجزه أن يوفر دابة ينطلق بها إلى هناك، ولكنه لم يرد لفت الأنظار إليه، فمن حنكته الأمنية أنه فعل ذلك، ولو رآه أحد المشركين يركب دابة لشك في سفره إلى مكان ما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ممنوع من السفر، لئلا يقوم بنَشْرَ الدعوة خارج مكة، ومن ثَمَّ آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع المائة كيلو متر سيرًا على الأقدام.

ولذات السبب؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأخذ معه كوكبة من الصحابة لحمايته ولم يأخذ فارسًا من الصحابة ليكون له سندًا، لم يأخذ حمزة أو عمر أو الزبير أو سعد بن أبي وقاص، وكذلك لم يأخذ صديقه الأول أبا بكر الصديق رضي الله عنه، كل هذا لكي لا يلفت الأنظار إليه إذا رآه أحد المشركين، ولكنه أخذ معه غلامه زيد بن حارثة، وكان قد أعتقه وتبنّاه وأطلق عليه زيد بن محمد، فرؤية زيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مستغربة، وفي الوقت نفسه فزيد يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حبًّا شديدًا، ويستطيع خدمته وحمايته والتضحية من أجله، وقد ظهر ذلك بوضوح بعد زيارة الطائف وما حدث فيها. وزيد بن حارثة لم يكن صغيرًا في هذه الرحلة، كان يبلغ من العمر أربعين عامًا تقريبًا، وقد ظن بعض القارئين للسيرة أنه كان صغيرًا لأنه يطلق عليه غلام، ولكن غلام بمعنى خادم وليس بمعنى غلام صغير.

إذن أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الاحتياطات الأمنية، وتسلل إلى خارج مكة على حين غفلة من أهلها، وانطلق إلى الطائف، مائة كيلو متر سيرًا على الأقدام في الصحراء، وفي شهر مايو أو يونيو. هذا هو الطريق، طريق الدعوة ليس سهلاً ولا ممهدًا، ولكنه في الوقت نفسه فإن أجر الدعوة يساوي هذا المجهود بل يزيد [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] {فصِّلت: 33}.

كان من الممكن أن يطير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف بمعجزة، ولكنها التربية، رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا طبيعة الطريق، يضع أقدامنا على سبيل الرشد، يبصرنا بسنن الله عز وجل في التغيير، ليست هناك مصادفات ولا مفاجآت، الذي يفقه سنن الله في أرضه وفي خلقه يرى المستقبل بعين اليقين، كيف لا؟ وقد وضع أقدامه على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.


الرسول في الطائف:
ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ووقف على أعتابها يفكر، إلى من يذهب هناك؟ ومن يدعو؟

الأمر الآن ليس دعوة فقط، بل دعوة وطلب للنصرة، فالموقف مع قريش أصبح حرجًا للغاية، ولأنه سيطلب النصرة فلا بد أن يذهب إلى سادة ذلك المكان، فإن الضعفاء لن يجيروه من قريش، وهي موازنات مهمة يعقدها الداعية الناجح، ليس هذا تقليلاً من دور الضعفاء، ولكن هذه مهمة سياسية واضحة جدًّا وخطيرة للغاية، ولا بد أن يدرك الرسول صلى الله عليه وسلم مع من يتحدث. ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس من الطائف وليست له إجارة هناك، وبدون دخول المدينة من بابها الرئيسي فلن يتمكن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من دعوة كبير ولا صغير ولا عزيز ولا ذليل، وهو ما أسمّيه بـ فقه الواقع، ولذلك فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يذهب إلى قيادة الطائف مباشرة، ولكن قيادة الطائف قيادة مزدوجة ليست لقبيلة واحدة بل لقبيلتين، قبيلة بني مالك وهي القبيلة الأصلية في الطائف والمتمركزة فيها منذ زمن، ولكنها منذ قديم شعرت بالضعف في مواجهة القبائل الضخمة المحيطة بالطائف مثل قريش وهوازن وبني عامر وغيرها، وعلمت أن أطماع الناس في الطائف كبيرة لخصوبة أرضها، فقررت أن تحالف قبيلة أخرى وتسكن معها في الطائف ويتقاسما قيادة الطائف، فتحالفت مع قبيلة أخرى هي قبيلة بني عمرو بن عمير؛ ولذا فقيادة الطائف بين قبيلتي بني مالك وبني عمرو. ثم إن الأيام مرت وثبت أن القبيلتين ضعيفتان نسبيًّا، فقررتا أن يتحالفا تحالفًا سياسيًّا مع بعض القبائل المحيطة بالطائف، فتحالفت قبيلة بني مالك مع قبيلة هوازن، وتحالفت قبيلة بني عمرو مع قريش، هذا التحالف لم يكن قائمًا على الحب والتعاون ولكنه كان يقوم على اتقاء الشر والخوف من إغارة إحدى هذه القبائل على الطائف، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك كل هذه الأبعاد جيدًا.

والآن نقف وقفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحلل معه الوضع الحرج، لو ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني مالك فإنهم لن يقطعوا رأيًا إلا بعد الرجوع إلى هوازن، وهوازن تعتبر كتابًا مغلقًا بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالدعوة لم تصل إليها بعدُ، وليس بين أبنائها مسلم وفي الغالب سيرفضون الدعوة، لأنه أيضًا من مبادئ الدعوة أن علية القوم - غالبًا - ما يرفضونها في بادئ الأمر؛ خوفًا على مصالحهم وسيادتهم.

أما إذا ذهب إلى بني عمرو التي تحالف قريشًا فإن الوضع مختلف، التحالف الذي يقوم بين بني عمرو وبني قريش يقوم على الخوف من قريش، فإذا وجدت قبيلة بني عمرو فرصة لإحداث انقسام في قريش فقد تأمن جانبها إلى الأبد، هذا رجل من ورائه بنو هاشم وبنو المطلب، ولا شك أن له أتباعًا في بقية بطون قريش، فلو آزرت بنو عمرو رسول الله صلى الله عليه وسلم انقسمت قريش بين مؤيد ومعارض، وهذا سيضعف شوكتها وتكون فرصة بني عمرو للتخلص من تهديد قريش. هكذا فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم عمد إلى سادة قبيلة بني عمرو، ولم يذهب إلى سادة قبيلة بني مالك المتحالفة مع هوازن.

وإنني أعجب من هؤلاء الذين ينادون بفصل الدين عن السياسة، من أين جاءوا بهذا الكلام؟! فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمارس السياسة في أعظم صورها، إلا إذا كانوا يقصدون أن السياسة - عندهم - لا تصح إلا بالغدر والكذب والنفاق والتجمل الكاذب.

اتجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثة من أبناء عمرو بن عمير وعرفهم بنفسه، وبدأ يدعوهم بدعاية الإسلام ويعرفهم بدين الله عز وجل، ثم يطلب منهم النصرة له وللإسلام وللمؤمنين بمكة. كان الثلاثة هم: عبد ياليل ومسعود وحبيب أولاد عمرو بن عمير، وكانوا - كما ذكرنا - سادة من سادات الطائف وأوضاعهم مستقرة إلى حد كبير، فجاء هذا العرض من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطلب منهم أن يغيروا دينهم ويتركوا عبادة اللات إلى عبادة الله عز وجل، ليس هذا فقط بل إن دخولهم في هذا الدين هو بمنزلة إعلان الحرب على قريش. ومن الواضح أن هذا القرار الذي يطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى رجل حكيم، جريء، ثاقب النظر، عميق الفكر، ولكن يبدو أن هذه الصفات كانت بعيدة كل البعد عن أولاد عمرو بن عمير، فإنهم لما سمعوا هذا العرض من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لبثوا أن جزعوا وفزعوا وبدءوا يتكلمون بكلام هو أشبه ما يكون بالهذيان، لا يمت للحكمة بصلة من قريب ولا بعيد.


موقف سادة الطائف من دعوة الرسول:
قال عبد ياليل بن عمرو: إنه سيمرط (أي سيمزق) ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك.

قلة شديدة أو انعدام في الأدب، واعتراض على اختيار الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم.

أما مسعود فقال: أما وجد الله أحدًا غيرك.
وأما الثالث حبيب فقد قال - وهو يحاول أن يصطنع الذكاء مع شدة غبائه - قال: والله لا أكلمك أبدًا، إن كنت رسولاً لأنت أعظم خطرًا من أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك.

وهكذا عميت أبصار رجال الطائف عن الدعوة الواضحة النقية، وفشلت المفاوضات سريعًا، وتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربة محزنة جديدة، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تفقده الضربة دقة التفكير ولا رجاحة العقل، فقد أسرع وقال لهم: "إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني" (يعني يظل هذا الموضوع بيني وبينكم).

وهذا حِسٌّ أمني راقٍ جدًّا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأخذ بكل الأسباب، ولو شاء الله لأخذ بأسماعهم وأبصارهم وألسنتهم، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسم لنا الطريق بدقة، لقد طلب من قادة ثقيف أن يكتموا هذه المفاوضات التي تمت، ما دام ذلك لن يضرهم في شيء. ومن الواضح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر من أن يصل الخبر إلى قريش؛ لأنه لو وصل الخبر لقريش فسيُتَّهم صراحة بتهمة التخابر مع قبيلة أجنبية، ومحاولة زعزعة نظام الحكم في مكة، وإثارة الفتنة.

وفوق ذلك فإن الكفار سيستغلون الفرصة في إعلامهم المضاد لإبراز فشل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوة ثقيف، وهو دليل في رأيهم على ضعف الرسالة، والرسول صلى الله عليه وسلم لأجل كل ذلك تمنى أن يكتم أولاد عمرو بن عمير أمره، لكن هؤلاء السادة كانوا فوق خفة عقولهم فاقدين للمروءة، فما لبثوا أن أغروا به سفهاءهم وغلمانهم يسبونه ويصيحون به. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ييئس، بل مكث في الطائف عشرة أيام كاملة بعد هذا اللقاء، لا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، ولكن رفضوا جميعًا، حتى إذا جاء اليوم العاشر قالوا له اخرج من بلادنا، وأرسلوا خلفه عبيدهم وسفهاءهم، فصفوا أنفسهم صفين خارج الطائف وجعلوه يمر من بين الصفين وهم يقذفونه بالحجارة ويقذفونه بأسوأ الكلام والسباب، حتى سالت دماؤه الشريفة صلى الله عليه وسلم على كعبيه وتلون النعل بالدم، وكان زيد بن حارثة يبذل كل طاقته لتلقي الحجارة في جسده، بل في رأسه حتى لا تصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى شج رأسه رضي الله عنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسرع الخطا بين الصفين حتى انتهى منه، ويمم عائدًا إلى مكة، لكنهم لم يتركوه بل ظلوا يتعقبونه بالحجارة والسباب مسافة خمسة كيلو مترات تقريبًا من الطائف، وهو لا يدري ما يفعل، ولسان حاله يقول: يا ليت قومي يعلمون، حتى وجد حائطًا (حديقة) فأسرع إليها يحتمي بها، ثم دخل فيها وهنا وقف السفهاء والعبيد وعادوا أدراجهم إلى الطائف.

ولهفي عليك يا حبيبي يا رسول الله!! أبعد كل هذا العناد والكد والتعب والمشقة يرغب أناس من أمتك عن سنتك؟! أبعد كل هذه المكابدة يفرط فريق من أمتك في شرعك؟!

أبدًا ما كان وصول الشرع هينًا، إن الكثير من الناس لا يقدّر الكم الهائل من التضحيات التي دفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وخديجة وغيرهم، ترى ماذا سيكون رد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لو علم أن فردًا من أمته تهاون في حق هذا الدين الذي حُمل إليه بعرق ودم وروح؟

روى الإمام مسلم... قَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ حَتَّى أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، وَسَيُؤْخَذُ أُنَاسٌ دُونِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، مِنِّي وَمِنْ أُمَّتِي. فَيُقَالُ: أَمَا شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ، وَاللَّهِ مَا بَرِحُوا بَعْدَكَ يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ".

عندما ندرس هذه التضحيات الضخمة نفهم حقًّا هذا العقاب الأليم البشع لأولئك الذين فرطوا في منهج نبيهم، وأولئك الذين أحدثوا في الإسلام ما ليس فيه.


الرسول يشكو إلى الله:
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحائط، وهو مثقل بالهموم والأحزان والجراح، فأسرع إلى ظل شجرة وجلس تحتها وأسند ظهره إلى الشجرة ومد يده إلى السماء، وانهمرت عبراته وهو يدعو بدعاء ما دعا به قبل ذلك، وما دعا به بعد ذلك، دعاء يعبر عن مدى الألم والحزن والهم والغم الذي شمل كل كيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أغلقت أمامه كل الأبواب إلا هذا الباب الذي لا يغلق أبدًا، باب الرحمن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟ أَمْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلاَ أُبَالِي، وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتّ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اسامه جاد
مشرف سوبر
مشرف سوبر
اسامه جاد


ذكر عدد الرسائل : 3356
العمر : 53
العمل/الترفيه : معلم اول احياء وعلوم بيئه وجيولوجيا
نقاط : 13556
تاريخ التسجيل : 14/02/2009

قصة الاسلام الجزء8 Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصة الاسلام الجزء8   قصة الاسلام الجزء8 I_icon_minitimeالثلاثاء ديسمبر 15, 2009 7:48 pm

لقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة مرفوع الرأس وحوله الأسلحة من كل مكان بدلاً من أن يدخلها متسللاً منهزمًا، وفي الوقت نفسه فهو يدخل، وهو يعلن أنه ما زال على نفس الطريق، وما هي إلا أيام وسيخرج من بيته لاستقبال وفود الحجيج يدعوهم إلى دين الله كما كان يدعوهم في حياة أبي طالب.

ومع أن قبول المطعم بن عدي لإجارة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت لها هذه الجذور التي ضغطت على المطعم بن عدي إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ظل حافظًا للجميل، فبعد غزوة بدر وأسر سبعين من المشركين وكان المطعم قد مات قبل بدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى البخاري: "لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ".

وبالطبع قبلت قريش بإجارة المطعم بن عدي لألد أعدائها الآن، ليس احترامًا للمطعم بن عدي فقط ولكن خوفًا من سيوف خزاعة وأسلحة الخزرج، ويبقى الدرس المهم الأصيل (لا بد للحق من قوة تحميه).

لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الرجل البعيد النظر الواسع الحكمة الذي حنكته التجارب وخبر أمور البلاد والعباد، يعلم أن هذا الموقف من المطعم موقف مؤقت، فلن تصبر قريش طويلاً على هذا الأمر، وستمارس ضغطًا قد لا يقوى المطعم على دفعه. كما أن المطعم رجل كافر له طاقة محدودة، وقد لا يضحي بروحه وماله ومركزه ووضعه نظير حماية رجل لا يؤمن بمبادئه. أضف إلى ذلك أن الموقف في مكة قد أصبح حرجًا، فقد وصلت الدعوة للناس أجمعين واضحة نقية، فمنهم مؤمن ومنهم كافر، وانتقال الكافرين إلى معسكر الإيمان أصبح نادرًا إن لم يكن معدومًا.

الرسول يدعو للإسلام والنصرة

كل هذا دفع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يغير من حواره وطريقته مع القبائل الزائرة لمكة تغييرًا محوريًّا خطيرًا، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو من قبل للإسلام فقط، يدعو الناس أن يتركوا ما يعبدون وأن يعبدوا الله عز وجل وحده لا شريك له، وأن يؤمنوا به كرسول من عند الله، أما الآن، فهو سوف يضيف شيئًا خطيرًا كان قد طلبه للمرة الأولى من أهل الطائف، ولكنهم رفضوه وطردوه، أما هذا الشيء فهو النصرة والاستضافة في مكان قبيلتهم أيًّا كان هذا المكان، وهو بمنزلة إعلان الحرب على أهل مكة، ومكة لا تدري أي القبائل ستوافق على نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تكون القبيلة كبيرة وقوية؛ ولذلك فإن مكة ستحاول أن تتجنب قدر الاستطاعة الدخول في هذه المخاطرة، نعم المطعم بن عدي يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم لكن هذا إلى حد معين كما ذكرنا.

وكان السبيل الأول أمام أهل مكة هو تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم قدر المستطاع، وشن حرب إعلامية مضادة على مستوى واسع، وكان أبو لهب وراء الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تحدث مع القبائل يقول لهم: لا تسمعوا منه؛ فإنه كذاب.

كل هذا دفع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تغيير منهجه في زيارة القبائل القادمة على مكة، فماذا فعل؟

أولاً: كان صلى الله عليه وسلم يأتيهم ليلاً حتى لا يلفت أنظار القرشيين.
ثانيًا: كان يأتيهم في منازلهم بعيدًا عن الكعبة، فإنه لكثرة القبائل كانت كل قبيلة تقيم مخيمًا خارج مكة لتتسع لكل هؤلاء، فكان صلى الله عليه وسلم لا ينتظر أن يدخلوا إلى البيت الحرام ثم يدعوهم، بل كان يذهب إليهم خارج مكة بعيدًا عن أعين المراقبين.

ثالثًا: وهذه نقطة في غاية الأهمية، فإنه كان يصطحب معه أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وأحيانًا علي بن أبي طالب وذلك لإشعار القوم أنه ليس وحيدًا في مكة من ناحية، ومن ناحية أخرى أهم أن أبا بكر الصديق كان يعرف أنساب القبائل، فكان يستطيع أن يدرك القبيلة القوية الشريفة من القبيلة الضعيفة القليلة، وهذا أمر في غاية الأهمية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يطلب منهم النصرة، فإن ادّعوا القوة وهم ليسوا بأقوياء بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم حساباته على معلومات غير موثقة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألهم سؤالاً مباشرًا عن عددهم وقوتهم، وأبو بكر يؤكد على ذلك أو ينفيه، فإن وجد منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قوة عرض عليهم الإسلام وطلب منهم النصرة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يصل بدعوته إلى كل إنسان لكنه يقدر الموقف السياسي العصيب الذي يمر به، ويحسب لكل موقف حسابه المناسب.

وهكذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جولاته من جديد، في نشاط وخفة، وفي حمية وكأن الأمور على خير ما يرام، وما زالت الأحزان تتلو الأحزان، ففي الشهور الثلاثة الماضية مات أبو طالب وماتت خديجة رضي الله عنها وآذاه أهل مكة وذهب إلى الطائف فأوذي هناك إيذاءً شديدًا وعاد إلى مكة وحيدًا، ودخلها في إجارة رجل ليس من قبيلته بعد أن حاول محاولتين في رجلين آخرين ولكن المحاولتين فشلتا، ثم أخيرًا في هذا الجو المشحون يستأنف دعوته. والله يا إخواني، لا عذر لأحد، كلمة الظروف هذه لم تكن موجودة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كثيرًا ما يعتذر كثير من الناس عن العمل لله عز وجل أو تفريغ الوقت للدعوة بحجة أن ظروفه لا تسمح، ظروفه مختلفة، ظروفه ليست مناسبة، فانظر وتأمل، كيف كانت ظروف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف كان يعمل.

وسبحان الله في هذا الموسم العصيب لم يستجب أحد من القبائل لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضيفوا بذلك حزنًا جديدًا إلى أحزان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك لم يستجب أحد من أهل مكة في العام التالي لهذا العام وهو العام الحادي عشر من البعثة.

ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يسمع عن زائر لمكة إلا دعاه للإسلام، فأسلم على يديه أربعة: سويد بن الصامت من قبيلة الأوس بيثرب وكان شاعرًا، وإياس بن معاذ وكان صغيرًا في السن بين الثانية عشرة والثالثة عشرة، وقد مات الاثنان رضي الله عنهما بعد ذلك بشهور قليلة؛ لذا لا نسمع عنهما.

أما الاثنان الآخران فكان إسلامهما فتحًا، فقد جاء كل واحد منهما بقبيلته بعد ذلك مسلمة وهما:

الأول: أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، وكانت قبيلته غفار تعمل بقطع الطريق على القوافل والمسافرين، فهم لصوص إذن، ومع ذلك لم ييأس أبو ذر وظل يدعوهم حتى جاء بهم مسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة؛ فقال النبي: "غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا". أي ما كان منهم قبل إسلامهم.

الثاني: الطفيل بن عمرو الدوسيّ رضي الله عنه، وكان سيد قبيلته دوس من قبائل اليمن، وبعد دعوة طويلة آمنت دوس، وجاء الطفيل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة بسبعين أو ثمانين بيتًا من دوس، وكل بيت كان يضم عددًا كبيرًا، وليست أسرة صغيرة تساوي حياة أفضل، بل أسرة كبيرة كل أفرادها يعملون وينتجون ويدعون تساوي حياة أعز وأكرم.

جاء هذان الصحابيان للدولة الإسلامية بأعداد غفيرة، صحيح أنهم جاءوا في المدينة بعد إقامة الدولة، ولكن هذا تدبير الله سبحانه وتعالى.


كل القبائل ترفض الإسلام:
ومرت الأيام وجاء موسم الحج في العام الحادي عشر من البعثة وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم كعادته، في نشاط، يدعو القبائل، وسبحان الله في هذا الموسم لم تقبل قبيلة واحدة الإسلام، حتى يزيدوا حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر، لكن ماذا عليه أن يفعل؟ ما على الرسول إلا البلاغ.

وسبحان الله! في هذا الموسم ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبائل بني عامر، وغسان، وبني فزارة، وبني مرة، وبني حنيفة، وبني سليم، وبني عبس، وبني نصر، وبني ثعلبة، وبني شيبان، وبني كلب، وبني الحارث بن كعب، وبني عذرة، وبني قيس، وبني محارب، وغيرهم، كل هذه القبائل عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام والنصرة، وعقد معها مباحثات مطولة، وخلاصة هذه المباحثات أن كل هذه القبائل رفضت الدعوة؛ منهم من رفضها بأدب كبني شيبان، ومنها من رد عليه ردًّا قبيحًا كبني حنيفة، المهم أن الكل رفضوا، سبحان الله، طريق الدعوة طريق طويل، هذا أحكم الخلق وأبلغ البشر وأعظم الرسل ينطلق بدعوته بيضاء نقية إلى عقول تفقه اللغة وتقدر الحكمة، ومع ذلك فهم لا يقبلون [إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ] {القصص: 56}.

لكن هل فتر الحبيب صلى الله عليه وسلم؟ أبدًا والله، ما فتر وما قصر وما يئس، في كل يوم دعوة وفي كل لحظة عمل، إنه يعمل لله عز وجل، والله حي لا يموت، حماسته للعمل لا ترتبط بكثرة أتباعه، بل حماسته مرتبطة بيقينه في الله، ويقينه في الله لا حد له، فدعوته وحماسته وعمله لا حد لها.


محاولتان للمساومة والانتقاص من الدين
ومع أن كل هذه القبائل رفضت الدعوة، إلا أنني أود أن أقف عند حواره صلى الله عليه وسلم مع قبيلتين فقط من هذه القبائل لما في هذا الحوار من دروس لا تقدر بثمن:

أولاً: مباحثاته مع بني عامر بن صعصعة
قبيلة بني عامر قبيلة كبيرة قوية عزيزة، وهي من القبائل القليلة في جزيرة العرب التي لم تعرف في تاريخها سبيًا لنسائها، ولا إتاوة تدفع لغيرها، والمباحثات معها في غاية الحساسية، وقد ذهب إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه صاحبه الصديق رضي الله عنه وعرض عليها الإسلام، وحسنه في قلوبهم، استمعوا إليه وأنصتوا، ثم تكلم زعيم من زعمائهم يخاطب بقية الزعماء، ويخاطب في نفس الوقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الزعيم هو بيحرة بن فراس، قال: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. إذن هو يعلم أن هذه الرسالة سيكون لها شأن كبير، ويرى أنه لو كان حاميًا لها مدافعًا عنها فإنه سيأتي وقت سيسيطر فيه على العرب أجمعين، وهذا وإن كان يدل على بعد نظر هذا الرجل إلا أنه يشير بوضوح أيضًا إلى أنه رجل انتهازي نفعي لن يستجيب إلى هذه الدعوة اقتناعًا بقيمتها ولكن فقط حبًّا في الرئاسة والزعامة والسيطرة، وهذا خطر عظيم، ثم إنه صرح بهذا الأمر علانية فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ ها هو يصرح بوضوح أنه يريد الأمر لنفسه وقبيلته بعد ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه يجعل ذلك بعد موت رسول الله صلى الله عليه سلم، وهذا قد يعد في نظر السياسيين من أهل الدنيا نصرًا وتمكينًا، فالرجل سوف يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيترك له الأمر طيلة حياته، ولكنه يساوم على زعامة الأمر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبحث عن التمكين لنفسه لكان هذا عرضًا مغريًا جدًّا، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحساسية لأولئك الذين يطلبون زعامة أو رئاسة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدوء عجيب وفي ثقة متناهية: "الأَمْرُ إِلَى اللَّهِ، يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ". الولاية تكون لمن يستحقها، لا يوسد الأمر في الإسلام لغير أهله، ولا يمكن قبول إسلام بني عامر نظير أن تكون زعيمة ولو بعد عشرات السنين. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي كل شيء نظير إسلام الناس إلا الرئاسة والزعامة، لأن القائد للقوم يسير بهم، ويدبر شئونهم، فإن كان في نفسه هوى سار بهم بهواه، وهكذا يَضِلّ ويُضَلّ، لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي المال الكثير للناس حتى يتألف قلوبهم، ولو طلبوا مالاً أكثر أعطاهم وأعطاهم وأعطاهم، لكن لو طلبوا ولاية ما أعطاهم ولو كانوا من أعز أصحابه أو أقرب أقربائه.

روى الإمام مسلم عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ تَسْتَعْمِلْنِي؟ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مِنْكَبِي ثُمَّ قَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا".

وروى البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا".

بل صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو أوضح من ذلك، فلم يجعل الأمر على سبيل النصيحة فقط بل جعله تشريعًا؛ روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَرَجُلاَنِ مِنْ بَنِي عَمِّي، فَقَالَ أَحَدُهُمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلاَّكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"إِنَّا وَاللَّهِ لاَ نُوَلِّي هَذَا الْعَمْلَ أَحَدًا سَأَلَهُ، أَوْ أَحْدًا حَرَصَ عَلَيْهِ".

ففتنة الزعيم لا تعود عليه وحده بل تعود على الأمة جميعها، فالزعيم الحريص على زعامته سيرتكب كل الموبقات من أجلها، سيكذب ويزور ويقتل ويمالئ العدو، الزعيم الذي يحيا لدنياه يهمل دنيا الناس، وإذا اتخذ قرارًا ظالمًا فسيظلم به شعبًا كاملاً، وإذا مشى في طريق خاطئة فسَيُسَيِّر الناس كلهم وراءه؛ لأجل هذا رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم شرط بيحرة بن فراس، رفضه وهو في أمسِّ الحاجة إليه، رفضه مع حالة الضعف والقلة والوحدة، ولكنها قواعد واضحة وأسس ثابتة يرسمها لنا أحكم خلق الله عز وجل. وبالطبع رفض بيحرة وبنو عامر الانضمام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال في تعجب: أَفَتُهْدِفُ نُحُورَنَا لِلْعَرَبِ دُونَكَ، فَإِذَا أَظْهَرَكَ اللَّهُ كَانَ الأَمْرُ لِغَيْرِنَا؟ لاَ حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِكَ.

وهكذا فشلت مباحثات الرسول صلى الله عليه وسلم مع بني عامر.


ثانيًا: مباحثاته مع بني شيبان
أما المباحثات الثانية المهمة التي أريد أن أقف عليها، فهي مباحثاته صلى الله عليه وسلم مع بني شيبان، وهي قبيلة كبيرة عزيزة تسكن في الشمال الشرقي لجزيرة العرب يعني قريبة من العراق، وقد ذهب إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه صاحبه الأمين أبو بكر الصديق رضي الله عنه، بدايةً بدأ أبو بكر بفحص القبيلة على المقاييس المطلوبة فسأل: من القوم؟ قالوا: شيبان بن ثعلبة. اهتم أبو بكر جدًّا بالأمر فهو الرجل الخبير بالأنساب ويعلم من هؤلاء، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال في اهتمام: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، هؤلاء غُرَر الناس. ليس هذا فقط بل لما سأل عن أسماء الحضور وجدهم أحسن الناس في بني شيبان، كان فيهم مفروق بن عامر وهانئ بن قبيصة والنعمان بن شريك والمثنى بن حارثة، وهؤلاء هم أعظم رجال بني شيبان، فالمباحثات ستتم على مستوى الرؤساء والوزراء، فبدأ أبو بكر يسأل عن القوة والمنعة في القبيلة. والحق أنه لا يسأل ليعرف، فبنو شيبان معروفة جيدًا له، ولكنه يستثير فيهم الحمية والعزة ويلمس وترًا حساسًا جدًّا في قلوب العرب.

قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: كيف العدد فيكم؟
فقال مفروق المتحدث الرسمي في الوفد: إنا لنزيد على الألف، ولن تُغْلَبَ ألف من قلة (ويبدو أن رقم ألف هذا كان رقمًا كبيرًا جدًّا في أعرافهم؛ لأنهم كانوا قبائل متفرقة، ولا ننسى أن المسلمين في بدر كانوا أكثر من ثلاثمائة بقليل، وكان الكافرون ألفًا فقط).

فاستثاره أبو بكر قائلاً: وكيف المنعة فيكم؟ يعني هؤلاء رجال أشداء، أم مجرد عدد.

شعر مفروق أن هذه إهانة، فبدأ صوته يعلو، قال: إنا لأشد ما نكون غضبًا حين نلقى (أي في الحرب)، وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا أخرى.

كلام في منتهى الحكمة، فهو وإن كان اندفع متحدثًا عن مآثر قومه وعزتهم إلا أنه اندفاع موزون فهو قد نسب النصر لله عز وجل - وكانوا يؤمنون به ولكن يشركون معه الأصنام - وذكر أن الحرب دول، فيوم لهم ويوم عليهم، وهذا عين الحكمة.

ثم إن مفروقًا انتبه إلى كثرة أسئلة الصِّدِّيق، فقال في ذكاء ودراية: لعلك أخو قريش؟ أي لعلك هو أنت الرجل الذي ظهر في قريش يدعو إلى أمر جديد يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمفروق كان قد سمع بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشعر أن الذي يسأل هو ذاك الرجل، لكن الذي كان يتكلم في كل هذا الذي سبق كان الصديق رضي الله عنه.

الصديق أراد أن يكسب نقطة في الحوار، قال: أوَقد بلغكم أنه رسول الله؟ قالها وكأنه يريد أن يذكر لهم حقيقة مؤكدة، ولكن مفروقًا انتبه إلى كلمة الصديق فردَّ في سرعة: قد بلغنا أنه يذكر ذلك. وهذا ذكاء منه؛ لأنه لم يسمع بعدُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرد أن يعترف بأنه رسول قبل أن يسمع منه، لكن الحقيقة أن مفروقًا كان رجلاً مؤدبًا مهذبًا - وكل وفد بني شيبان كذلك - التفت مفروق للرسول صلى الله عليه وسلم وقال: وإلامَ تدعو يا أخا قريش؟

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدأ يعرض دعوته، قال: "أَدْعُو إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَإِلَى أَنْ تُئْوُونِي وَتَنْصُرُونِي".

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك بذكاء أنه سيدور بخلدهم سؤال مهم: وهو لماذا لا تقوم بهذا الدور قريش وهي القبيلة القوية المنيعة؟ فأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم يبرر ذلك ويقول: "فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ تَظَاهَرَتْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، وَكَذَّبَتْ رَسُولَهُ، وَاسْتَغْنَتْ بِالْبَاطِلِ عَنِ الْحَقِّ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ". أي أنه قال لهم بوضوح: المطلوب منكم أن تواجهوا قريشًا، ويبدو أن مفروقًا قد أعجبه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن خائفًا من قريش، لكنه أحب أن يعرف أكثر عن هذا الدين الجديد، فقال: وإلامَ تدعو يا أخا قريش؟

فكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه قرآنًا، ولكن ماذا يختار من كل القرآن الذي نزل عليه؟ لقد وجد الرسول صلى الله عليه وسلم مفروقًا ومن معه ذوي أخلاق سامية، فاختار لهم آيات قرآنية تحض على الأخلاق الحميدة، حتى يقف معهم على أرضية مشتركة، وهذا فكر راقٍ جدًّا.

قرأ لهم من سورة الأنعام قال: [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {الأنعام: 151- 153}.

سواء من حلاوة المعاني أو من حلاوة اللغة، شعر أن هذا إعجاز، فأراد أن يعرف أكثر، قال: وإلام تدعو أيضًا يا أخا قريش؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاربًا على نفس الوتر:

[إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] {النحل: 90}.

تأثر مفروق جدًّا بالقرآن، وقال في منتهى الصراحة: دعوت يا أخا قريش والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال (ثم أخذ يذم قريشًا)، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك.

من الواضح أن مفروقًا أعجبه الإسلام، لكن مفروقًا زعيم من مجموعة من الزعماء، والقرار ليس في يده وحده فأحب أن يسمع رأي أصحابه، فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا (وطبعًا الواضح أن هانئ بن قبيصة كان عنده خلفية دينية أوسع، فأحب أن يأخذ رأيه).

وهانئ بن قبيصة - أيضًا - أعجبه الإسلام، وليس عنده أي اعتراض عليه، لكنه كان خائفًا من اتخاذ قرار جريء مثل هذا القرار، فهذا سيترتب عليه دخول بني شيبان في حرب ليس مع قريش فقط، بل مع كل العرب؛ فقال: لقد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى أن تركنا ديننا، واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر، لَوَهنٌ في الرأي وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزَّلَّة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدًا، ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر.

هو انسحاب مهذب من هانئ، فهو لم يطعن في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه طلب الرَّوِيَّة في الأمر، وسبحان الله! مع جمال كلامه ودقة ألفاظه إلا أنني أجد موقف الصِّدِّيق رضي الله عنه في إيمانه أعظم بكثير من موقف هانئ. نعم الروية في الأمر شيء طيب، لكن عندما يكون الحق واضحًا بهذه الصورة ثم لا تُقْدم عليه بِعِلَّة التَّروِّي فهذا لا يُسمى ترويًا، ولكن يسمى ترددًا وغيابًا للحكمة وقلة في الثقة بالنفس، أما الصديق رضي الله عنه فإنه لم يتردد ولو للحظة واحدة عند رؤية الحق، ولذلك أصبح الصديق صديقًا.

المهم أن هانئ بن قبيصة عبر عن رأيه كفرد، وأنا أعتقد أن هذا كان انسحابًا مهذبًا من هانئ. إذن كان مفروق موافقًا وهانئ مترددًا ويميل إلى عدم الموافقة. والآن إذا كان الأمور سيكون فيها حروب سيصبح رأي وزير الحربية في بني شيبان مُهِمًّا وضروريًّا، فمَن وزير الحربية لديهم؟

إنه المثنى بن الحارثة، قال هانئ: وهذا المثنى بن الحارثة شيخنا وصاحب حربنا.

والمثنى بن الحارثة فارس مغوار وعقلية عسكرية فذة، وأصبح بعد عدة سنوات عندما أسلم من كبار الفاتحين الإسلاميين، لكن الآن وهو ما زال كافرًا فإن له حساباتٍ تختلف عن حسابات المؤمنين، قال المثنى بن حارثة: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة. يعني هو مع عدم التسرع في دخول الإسلام، لكنه بدأ يضيف معلوماتٍ جديدة في المباحثات، بدأ يتحدث عن الوضع العسكري لبني شيبان، وكلامه عن الوضع العسكري كلام مهم للغاية، وسيجعله في نهاية الأمر يتجه لاتخاذ قرار خطير، وسنرى ماذا قال المثنى: وإنا إنما نزلنا بين صَرَيَيْنِ: اليمامة والسماوة (الصَّرَى: هو تجمع المياه، يعني: نحن بين تجمُّعين للمياه وبالتالي تجمُّعين للبشر). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذان الصريان؟"

قال المثنى بن حارثة: أنهار كسرى ومياه العرب. أي تجمع دولة فارس وتجمع القبائل العربية؛ لأن قبيلة بني شيبان كما قلنا كانت على حدود العراق، والعراق كانت مملكة فارسية في ذلك الوقت، أما الجزيرة العربية ففيها عشرات القبائل. ماذا يريد أن يقول؟ يريد أن يقول: إن إمكانياته محدودة، وسيعرض عرضًا خطيرًا.

قال: فأما ما كان من أنهار كسرى - أي دولة فارس - فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وأما ما كان من مياه العرب فذنبه مغفور وعذره مقبول.

يعني بمعنى أوضح: نحن لا نستطيع إغضاب كسرى فارس، فالخطأ في حقه غير مقبول، أما العرب فنحن نقدر عليهم.

هذا الكلام - لا شك - واقعي جدًّا، كان مفروق يقول منذ قليل: نحن أكثر من ألف؛ لذا فنحن نقدر على العرب كلهم، أما جيش فارس فأكثر من مليونين من الجنود، الفجوة هائلة بالفعل، ومن كانت حساباته مادية فقط فمن المستحيل أن يقف أمام فارس. وفوق هذا فإن توقعات المثنى أن كسرى فارس لن تعجبه دعوة الإسلام هذه، فاعرفْ يا محمد أنه لو اعترض كسرى فارس فنحن لن ننصرك ضده، انظر ماذا يقول:

وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى، أن لا نحدث حدثًا ولا نُؤْوي محدثًا - لا نخترع شيئًا جديدًا، ولا ندافع عن أحد جاء بشيء جديد - وإني أرى أن هذا الأمر مما تكرهه الملوك. أي أن هذا الإسلام الذي يعبد الناس جميعًا لإله واحد، وينزع الحاكمية من أيدي الملوك ويعطيها لله الواحد الأحد، هذا أمر تكرهه الملوك، إلا من رحم اللهُ. وصدق المثنى، فماذا يريد المثنى أن يقول في النهاية؟ في آخر الحديث لخص المثنى كلامه في قرار في منتهى الجرأة، فقال: فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا.

يا الله! هذا انتصار كبير، لقد وافق المثنى بن حارثة على قبول الإسلام، بل قبول الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضد كل العرب، ولكن فقط اشترط شرطًا واحدًا أنه إن اعترض كسرى فارس فهو لن يتدخل.

وفي عرف السياسيين من أهل الدنيا، هذا انتصار هائل. وانظر، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يطارد حتى في مدينته الصغيرة مكة ومن أهله وأقاربه، وليس معه إلا حفنة قليلة من الأصحاب المضطهدين، وبقية أصحابه مهاجرون إلى الحبشة، وهو في إجارة رجل كافر، ثم يعرض عليه أن يدافع عنه ضد كل القبائل العربية، والعرض مقدم من قبيلة قوية "بني شيبان"، ثم الاشتراط الوحيد: عدم حرب فارس إذا اعترضت على دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والإنسان قد يفكر ويقول: وأين أنا الآن من فارس؟ عندما يأتي وقت فارس نفكر فيها، أما الآن فأمامنا فرصة الدعوة في كل الجزيرة العربية في حماية بني شيبان.


فماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم؟
لقد رفض الرسول صلى الله عليه وسلم عرض المثنى بن حارثة.
سبحان الله! لماذا؟ اسمعْ وتأملْ.
لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدب جمٍّ: "مَا أَسَأْتُمُ الرَّدَّ إِذْ أَفْصَحْتُمْ بِالصِّدْقِ". أي أنكم أحسنتم عندما عرضتم إمكانياتكم بوضوح، ثم قال جملة في منتهى الروعة وهي قانون رئيسي في بناء أمة الإسلام، قال: "فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ لَنْ يَنْصُرَهُ إِلاَّ مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ".

هي قاعدة عظيمة يعلمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم (إِنَّ دِينَ اللَّهِ لَنْ يَنْصُرَهُ إِلاَّ مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ).

لن ينصر الإسلام من ينتقي من الإسلام شيئًا ويترك أشياء، فهذا لا يعرف معنى الإسلام، لا يعرف معنى العبودية لله عز وجل، العبد لا ينتقي من كلام سيده. من ينتقِ وفق مزاجه إنما يعبد هواه لا الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم رفض؛ لأنه ليس هؤلاء الذين يستطيعون حمل الدعوة، الرسول يريد رجالاً يقول لهم: الله أمركم بكذا، فينفذوه حتى لو كانت عقولهم غير مستوعبة، الله قال حاربوا فارس، لا يقول أحد منهم: أين نحن من فارس؟ جاهدْ في سبيل الله، يقول: لا أستطيع. ادفعْ في سبيل الله، يقول: لا أستطيع. صلِّ الفجر في سبيل الله، يقول: لا أستطيع. صِلْ رحمك في سبيل الله، يقول: لا أستطيع. إذن أين الدين؟

وما معنى العبودية إذن؟ (إِنَّ دِينَ اللَّهِ لَنْ يَنْصُرَهُ إِلاَّ مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ). يا الله! قاعدة هائلة. ثم قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم في يقين رائع: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ لَمْ تَلْبَثُوا إِلاَّ قَلِيلاً حَتَّى يُوَرِّثَكُمُ اللَّهُ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ، وَيُفْرِشَكُمْ نِسَاءَهُمْ، أَتُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَتُقَدِّسُونَهُ؟"

أي أن أمة فارس ستنهار تحت أقدام المسلمين قريبًا، ماذا ستفعلون ساعتها؟ هل ستدخلون الإسلام؟
فقال النعمان بن شريك زعيمهم الرابع: اللهم لك ذا.
لكن لا شك أن السابق المقاتل قبل الفتح ليس كاللاحق المقاتل في زمن التمكين. وسبحان الله لم يمر على كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من 15 سنة حتى كانت جيوش المؤمنين تدكُّ حصون فارس وتزلزل عرش كسرى. والغريب جدًّا أن المثنى بن حارثة الذي كان خائفًا من كسرى فارس، صار بعد إسلامه من قوّاد الجيوش التي أزاحت كسرى فارس عن مُلكه، ولكنَّ المثنى بن حارثة بعد إسلامه كان إنسانًا مختلفًا تمامًا عن المثنى قبل الإسلام، وهذه هي عظمة الإسلام، وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] {النَّجم: 3، 4}.

ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا] {الأحزاب: 45، 46}. فقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم برسالته حيث بشر وأنذر، ثم نهض من مجلسه وقال لأبي بكر الصديق وهو معجب بأخلاق بني شيبان - حتى مع رفضهم للدخول في الإسلام - قال: "يَا أَبَا بَكْرٍ، أَيَّةُ أَخْلاَقٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مَا أَشْرَفَهَا! بِهَا يَدْفَعُ اللَّهُ بَأْسَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، وَبِهَا يَتَحَاجَزُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ".

ومع فشل تلك المفاوضات إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجزع ولم يحزن، فالقواعد في ذهنه واضحة جدًّا، يرى الأمور والأوضاع على حقيقتها، لا يفرط، ولا يتنازل، لا يخدعه أحد أو يخوفه، يعلمنا كيف نبني أمتنا، ومن غير هذه القواعد من المستحيل بناء الأمة، ولهذا ندرس السيرة.

انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة إلى مجلس مجموعة صغيرة قليلة من الرجال سمعهم يتكلمون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يترك كبيرًا ولا صغيرًا ولا كثيرًا ولا قليلاً إلا دعاه للإسلام، وقد كان هؤلاء النفر من يثرب.




قصة الاسلام الجزء8 Sep
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
قصة الاسلام الجزء8
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» قصة الاسلام الجزء2
» قصة الاسلام الجزء3
» قصة الاسلام الجزء11
» عالمية الاسلام
» قصة الاسلام الجزء ا

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات حجازة التعليمية :: الركن الدينى :: الحديث الشريف والسيره النبويه-
انتقل الى: