سمات القص في قيام وانهيار آل مستجاب
يقينا، لا يبدو التعرض لمحمد مستجاب أو لما يكتبه، أمرا سهلا أو عاديا، ذلك لأنه شكل ظاهرة أدبية وثقافية مائزة، ليست في حياتنا الأدبية والثقافية فقط، وإنما في نفوسنا نحن البشر العاديين أو الشعبيين كذلك، ولقد استطاع مستجاب أن يعبّد لنفسه سكة أدبية موغلة في الخصوصية والجمال، واستطاع أن يبتكر قصة تنتمي إليه وحده دون غيره.
وقبل الدخول إلى عالم مجموعة "قيام وانهيار آل مستجاب" يجب أن نعترف بأن ماهية الفن عند محمد مستجاب تكمن في اللهو واللعب والسخرية والتهكم، فهو يلهو بكل ما تقع عليه عيناه، ويسخر من كل شيء يحيط به ويدخل ضمن حدود وعيه، يسخر حتى من نفسه هو، ويلهو بقصته وبلغته وبشخوصه، ويسخر من المقدسات، ويتهكم على القيم، مازجا المقدس بالمدنس، والجليل بالضئيل، من خلال مخيلة شعبية شغوفة بكل ما يحيط بها، مشتبكة معه، فارزة له، ساخرة منه، مهيمنة عليه.
ومنذ البدء، تحيلنا مجموعة مستجاب، وتوثّق علاقتنا / علاقتها بالتراث العربي بشكل عام. فنصوص المجموعة تعمل على استعادة الموروث السردي العربي القديم، في إيجازه حينا، وفي استرساله حينا آخر، وفي تقاطعاته مع مضامين سردية أو غير سردية، كالأمثال والمواويل والأغاني والحكم والهوامش والتضمين ــ بشكل كلّي وجزئي ــ لأقوال ومأثورات خطابية مباشرة أو غير مباشرة، والتناص مع أشكال ومضامين تراثية، هذا من ناحية ...
ومن ناحية ثانية، تتكئ مجموعة مستجاب، بشكل ما، على الموروث السردي الفلكلوري، لما يتميّز به من غنى سردي وفيض حكائي، وتنوع في الأساليب والتقنيات. هذا الموروث الذي يتمثل في ألف ليلة وليلة، والسير الشعبية، والأساطير العربية، وحكايات الشطار والعيارين، والحكايات الهزلية، والحكايات الرمزية.
ومن ناحية ثالثة، تصلنا مجموعة مستجاب بالموروث السردي التاريخي، من حيث حكائيتها المباشرة للشخصيات والأحداث، ولغتها الوصفية وسرد الوقائع وتقطيعها، والتركيز على وصف اللحظة بنظرة الشاهد الخبير الملم بما جرى أو يجري أو ــ حتى ــ سوف يجري، وكذلك تدخل الراوي وطريقته في الحكي والشرح أو الدعاء وإيراد الحواشي.
وبدءا من عنوان المجموعة ــ وطريقة كتابته على الغلاف ــ نستطيع أن نكتشف نزوع محمد مستجاب نحو استعادة الموروث السردي التاريخي، كما يذكّر العنوان بقيام وانهيار الدول والإمبراطوريات أو الحضارات الإنسانية، وتتكرر في ثنايا قصصه علامات لغوية ذات دلالات تاريخية من قبيل: (عصر مستجاب ــ منصات الاغتيال ــ عهد الذبح ــ عهد العجول)، كما أن مستجاب لا يتورّع أن يحيلنا، من خلال بعض هذه العلامات اللغوية، إلى تاريخ مصر الحديثة من قبيل: (الشمولي ــ شركة علان أصغر علان للمقاولات ــ حرب جبال اليمن ــ الطابور الخامس ــ عميل ــ سب عهد الملوك والأمراء). ولعلّه يقترب بنا من شخصية السادات حين يصف مستجاب "الثالث" بـ (العابد الزاهد المتمثل الناسك الورع) ثم يواصل: (ذلك لأن الأمر هذه المرّة اختلف، فلم تكن المعضلة متعلقة بحرب يعلنها المستجاب فيستشهد فيها النجع، ولا مرتبطة بتموين يلقيه إليهم فيقفون طوابير في الشوارع، ولا بمنحة دخول المدارس يتشممون وصول أمرها إلى المدير المالي، فيتتبعونها إلى الصرّاف).
ومادمنا نعترف بأن طريقة القص في مجموعة مستجاب تتدثر بعباءة السرد التاريخي، فإن التناص مع التراث والتاريخ لا بد من أن يتعدد داخل المجموعة، فهو يتناص مع التراث أو مع التاريخ الفرعوني، وبخاصة قصة إيزيس وأوزوريس، يقول: (الدم جاءه في أعطاف تاريخ ملطخ، فتك فيه أحد أجداده المبكرين بأخيه ومزّق جسده إربا، ووزعه على أركان النجع، حتى قامت زوجته الملتاعة فجمعت الإرب من أكوام السباخ) ــ ص 64 ــ وكذلك يتناص مع ألف ليلة وليلة حيث يقول: (وعلى كل عذراء بعد ذلك أن تعد نفسها قربانا لمستجاب السابع، ينالها في صهوة الليل، ويقتلها في صدر الصباح ويستعد لغيرها أول المساء) ــ ص 68 ــ وكذلك يتناص مع الموروث الديني، وبخاصة قصة سيدنا سليمان عليه السلام، حيث يقول: (حتى كان الصباح، جاءه عفريت من الجن وقالها له صريحة، وهو يضطرب، امرأة جميلة شامخة تعيش في الجنوب، تفخر بأن مخلوقا من إنس أو جن ما تمكن من إشباعها، هي ملكة النمل أو النحل، بل هي من الإنس لها أفخاذ وسرة وأثداء وعنق وأجمل رأس في الوجود .......... هل آتيك بها نائمة على فرشها المعطر الفوّاح بالأريج) ــ ص 87 ــ
ويعتمد محمد مستجاب، في معظم قصص المجموعة، على البنية الدائرية المغلقة، بحيث تعود القصة في نهايتها إلى بدايتها كما في قصص: "مستجاب الثالث" ، "مستجاب السابع" و"سن الجبل" التي يقول في بدايتها: (أول من ظهر على السطح الغربان والضباط والسحالي والمهندسون والتلاميذ والصقور والضفادع، وبعدها كانت السحب وكلاب البحر وكرة القدم وكلاب البرّ والتصوير عن بعد، حينئذ أصبح ملائما أن تنقلب الدنيا رأسا على عقب بحثا عن سن الجبل)، وفي نهاية هذه القصة يقول: (ظلت السماء فرحة متهللة بالنصر، وقد تحلّق فيها الغربان والضباط والسحالي والمهندسون والصحافيون والتلاميذ والصقور وأعضاء المجالس النيابية من دون "سن الجبل").
ولعلّ في اعتماد مستجاب، في إنهاء القصة، على بنية دائرية مغلقة، بحيث تعود بنا نهايتها إلى البداية مرّة أخرى ، إشارة إلى أنه ينحو نحو نهايات مفتوحة، تتطلب مشاركة فعّالة من القارئ من أجل استخلاص الدلالات والرموز. كما يبدو هذا المنحى لنا متسقا مع نظرية الفن عند مستجاب، ومع انتهاجه السخرية واللهو والتهكم والعبث مذهبا فنيا في إبداعاته القصصية.
وإذا كنا نعترف بأن الأدب "يعبر" إلى العالمية من خلال "معدية" المحلية، فإن محمد مستجاب مثال جيد على هذا النزوع، فهو منذ مجموعته الأولى (ديروط الشريف) لم يبعد قيد أنملة عن قريته، عن بيئته الصعيدية، عن ناسه الهامشيين الذين يحبهم ويحبونه، فهو يقف عند حدود الصعيد المصري ، لا يتجاوزه ولا يحيد عنه، مجسدا تقاليد أهل الصعيد وعاداتهم وطقوس حياتهم اليومية وتاريخهم الشعبي وأساطيرهم وخرافاتهم وحكمهم وحكاياتهم، ومجسدا طرق تفكيرهم، الراقي الذي يعكس حضارة وادي النيل الفرعونية، والتافه الذي يتمحور حول الصراعات والثارات الهامشية والحروب التافهة الصغيرة حينا، وحول العنف المسلح أحيانا أخرى.
وفي حين يدنو محمد مستجاب من شعبه وناسه بما يدخل في وعيهم وضمائرهم، يقترب كذلك في عالمه القصصي ، بشخوصه وأحداثه، من الأسطورة والفنتازيا والغرائبية أو الواقعية السحرية، يقول: (وعندما تجتاحه النشوة يتألق بإنشاد القصائد وإزجاء الألغاز وتلاوة عيون النثر، كأن يتسع ويمتد حتى يصبح آل مستجاب كلهم نقطة صغيرة في وجدانه الواسع، ويستطيل ويشمخ حتى يمسي نخيل المنطقة نجيلا تحت قدميه، ويرق ويصفو حتى تكاد ترى أغنام وكلاب ونساء ودروب الوادي وراء جسده الشفاف، ويدق بكعبه الأرض حتى ترتج مطلقة الشياطين من سراديبها) ــ ص 20 و 21 ــ
وتتميز الشخصيات التي يخلقها مستجاب في مجموعته هذه بأنها تمتلك العديد من السمات أو الصفات المتناقضة في الوقت نفسه، فهي خيرة على طول الخط، ولكنها تفكر في الشر أحيانا. وكما تتميز بالذكاء الخارق أحيانا ، فإنها تتميز بالغباء الخارق كذلك في كل الأحايين، وذلك ما يعطي الكارثة التي تنتهي بها أغلب قصص المجموعة أبعادا منطقية وواقعية مقبولة.
والزمان القصصي في المجموعة طولي، ممتد، غير متعين، فنتازي ، متحرر من أبعاده الأساسية، يلعب به ويلهو فيه محمد مستجاب تبعا لماهية الفن لديه. وقد يبدو للوهلة الأولى أن الزمن القصصي مغيّب أو أن هذا الزمن موغل في القدم، لكن هذه الفكرة تتلاشى مع الاستمرار في قراءة المجموعة، حيث هناك من العلامات اللغوية ما يدل على أن الزمن ليس إلا العصر الحديث (الطائرات ، الميكرفونات ، البلدوز ، الشاشات) إلى غير ذلك من علامات دالة على الزمن الحديث. ومحمد مستجاب، تبعا لماهية الفن لديه، يقدم الزمن على طول المجموعة بلغة غير وثوقية، لا تخلو من لهو ولعب وسخرية، يقول: (وظلّ الثالث في خلوته يوما أو يومين، ثلاثة أو خمسة) ــ ص93 ــ ويقول أيضا: (إن كفاحهم في المليون عاما الماضية لم يذهب هدرا) ــ ص 93 ــ وهكذا يبدو ــ خداعا وحيلة ــ أن الزمن القصصي متفلّت من بين يدي الراوي ويصعب تحديده في القصة الواحدة.
ومثلما تخلّص الزمان في المجموعة من أبعاده، بدا المكان كذلك، حيث لا يبدو من العلامات الدالة عليه سوى العلامات التقليدية مثل الاتجاهات شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، ويتسع المكان ليشمل الصحارى والجبال والوديان، ويضيق ليقف عند حدود وادي النيل ونهر النيل و"سوق دراو". ومثلما اتسع الزمان القصصي اتسع، بالضرورة ربما، المكان ليشمل الأرض والسماء والرياح والرعد والبرق. إن هذه الأسلوبية الجمالية التي تسقط الحواجز بين المكان والزمان وأبعادهما في قصص محمد مستجاب تطبع المجموعة ككل بجو من الفنتازيا، وتصل بين الماضي بخرافاته وميثولوجيته والحاضر بعلمه وفنونه وتكنولوجيته.