إن مما يزيد المؤمن إيماناً وطمأنينةً ويقيناً على أن هذا الدين حق، وأن ما أوحي به للمصطفى صلى الله عليه وسلم صواب وصدق، هو مشاهدة ووقوع بعض ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم أمته منذ أمد بعيد، ولا غرابة في ذلك، فقد زكى الحق سبحانه وتعالى لسانه بقوله : "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" (سورة النجم، الآيتان : 3-4).
وهكذا يتبين "أن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إبلاغ أمته بما سيكون هو جزء من معجزته المؤيدة لرسالته لمن سيأتي من بعده من المسلمين الذين سيشاهدون هذه الفتن، وبالتالي سيكونون على حذر منها ويتجنبون الوقوع في مزالقها، كما أنها الزاد الذي يمد المسلم بالقوة تجاه الكفر والإلحاد، فهذه هي مقومات للإيمان، فالمسلم حينما يرى ما أخبر عنه النبي عليه الصلاة والسلام واقعاً بعينه يزداد إيمانه، فتكون معجزة له مثل المعجزات الحسية التي شاهدها الصحابة في حياته عليه الصلاة والسلام. إن المسلم الذي جاء بعد انتقال النبي عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى وشاهد ما أخبر عنه واقعاً بعد مئات السنين سوف تزداد ثقته بصدق هذا الرسول الكريم الذي بعثه الله ليكون رحمة للناس"(1).
إن هذا الأمر، أي التصديق بالغيب يحتاج إلى اليقين بالله تعالى وبموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الأمة ستستعيد مجدها، وتسترد قوتها، استعداداً لبشارة الخلافة على منهاج النبوة. ف"مستقبل الأمة كما أخبرت عنه الأحاديث والآثار لينبئ بأن لهذا الدين عودة، وإن الخلافة الإسلامية سوف تعود، وإن المسلمين سوف يعود لهم دورهم القيادي مهما كان الظلام حالكاً ومسربلاً واقع الأمة بسواده. إن هذا التوقع لم يُبن على خيال إنما بني على أخبار الله لرسوله عليه الصلاة والسلام، حيث أخبر عليه الصلاة والسلام أمته بالمسار التاريخي لها حتى نهاية العالم وقيام الناس لرب العالمين"(2).
ولا شك أن اليقين الذي تحدثنا عنه آنفاً يحتاج إليه الدعاة أكثر من غيرهم، لأنهم أمناء هذه الدعوة، ويحتاجون إلى ما يثبتون به ركائز الإيمان في قلوبهم، وتحمل كل ما سيعترض طريقهم من إبتلاءات وامتحانات خلال فترة التحول في تغيير الواقع المعاصر إلى واقع أفضل وأحسن، وهذا يقتضي منا عدم استعجال قطف الثمرة خلال فترة الدعوة لإقامة الحكم الإسلامي، بل الواجب على كل مسلم " العمل على المساهمة في البناء لتحقيق الغاية التي أشارت إليها الأحاديث من عودة الدين ليكون واقعاً في حياة الناس، وعليه أن يعمل في هذا السبيل فيكون جزءاً من قدر الله النافذ، وإلاَّ فإن قدر الله سوف يتحقق، لكن على كل مسلم أن يسعى ليحظى بأن يكون مع القافلة التي ستعيد مجد الأمة، فيكون له شرف المساهمة في تحقيق قدر الله في عودة الخلافة التي على منهاج النبوة"(3).
أولا: تشخيص الداء
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحرص على تحذير أمته من الهلاك، وذلك " أن حذرها مواطن السقوط وامتدت يده الطولى ب حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم" (سورة التوبة، الآية: 128) تغطي أمة الإسلام على طول زمانها وأمكنتها بالتمكين،والتفهيم، والتحذير، والإرشاد والتنبيه لمواطن البلاء، وأزمنتها، وما سيحدث ويحصل حتى قيام الساعة"(4).
وهكذا فالعاقل من الرجال لا يستطيع أن ينفي أن ما حذرنا منه صلى الله عليه وسلم منذ قرون قد حصل ووقع ولازالت الأمة تعيشه، كما يحق لنا أن نتساءل مع الشيخ محمد قطب حول ما وصلت إليه الأمة من ضعف وتضعضع" كيف هبطت ؟ لماذا هبطت؟ لماذا لم تحافظ على أفقها السامي، بل لم تحافظ على المستوى الأدنى الذي لا ينبغي لها أن تهبط دونه، والذي يحقق لها وجوداً راسخاً وممكناً لو حافظت عليه؟ !" (5).
نجد الجواب في الحديث النبوي الشريف الذي نحن بصدد دراسته، والذي أخبرنا فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم وحذرنا مما سيصيب الأمة في المستقبل ؛ إنه داء خطير يجب على خير أمة أخرجت للناس، أن تقاومه وأن تستأصله، وذلك باعتمادها الدواء الذي عينه لها الحبيب الطبيب صلى الله عليه وسلم.
وقبل الخوض في تفاصيل الموضوع لا بد لنا أولا أن " نقف عند كلمات هن مفاتيح الفهم: كثرة عددية، وعدو نزع الله مهابتنا من صدورهم، وقلوبنا قذف الله فيها الوهن، وحب الدنيا وكراهية الموت.
أوصاف وأوضاع ناطقة عن حالنا، منطبقة على ما تراه العين وتنمُّ عنه الأفعال. باد للعيان الضعف الغثائي، الكثرة العددية. ولئن كابر مكابر في دخائل صدور أعدائنا ومضمرات قلوبنا بما قذف الله عز وجل فيها من وهن لمَّا عصيناه وعصينا رسوله، ولو لا نَزْعُهُ تعالى من صدور عدونا مهابتنا، لما تخاذلنا كل هذا التخاذل المتمثل في بسط خدودنا ذلَّة لأعدائنا"(6).
(1) مختارات من أحاديث الفتن، ص : 7.
(2) مختارات من أحاديث الفتن، ص : 54.
(3) المرجع السابق، ص : 55.
(4) السيروان، أحاديث سيد المرسلين عن حوادث القرن العشرين من المقدمة.
(5) محمد قطب، واقعنا المعاصر، الطبعة 1467هـ،1986م، مؤسسة المدينة، ص : 115.
(6) عبد السلام ياسين الشورى والديمقراطية، ص : 202.