إن الحمد لله رب العالمين نحمده ونستعينه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، إنه من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }
آل عمران102
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } النساء1.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً {70 } يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [الأحزاب71،70 ]
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي نبينا محمد r ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
ثم أما بعد ..
فحياكم الله جميعا أيها الأخوة الأخيار وأيتها الأخوات الفاضلات ، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلا ، وأسأل الله الكريم – جل وعلا – الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته ، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفي r في جنته ودار مقامته ، إنه ولي ذلك ومولاه ..
أحبتي في الله وظيفة شاغرة ..
هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم ، في هذا اليوم الكريم المبارك ، وكعادتي حتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا ، فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في هذا الموضوع الخطير في العناصر المحددة التالية :
أولاً : أشرف وظيفة .
ثانيا : سمات المنهج .
ثالثاً : من سيتقدم اليوم بأوراقه لشغل هذه الوظيفة الغالية ؟ .
فأعيروني القلوب والأسماع والله أسأل أن يشرفنا وإياكم بالانتساب إلى هذه الوظيفة ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
أولاً : أشرف وظيفة :
في الوقت الذي يتنافس فيه كثير من المسلمين عامة ومن شبابنا خاصة للبحث عن وظيفة، تبقى هذه الوظيفة تحتاج إلى الصادقين المخلصين الذين يحرصون على شرف الانتساب إليها إنها أشرف وظيفة على وجه الأرض ولم لا ؟ وهي وظيفة الأنبياء والمرسلين ، إنها وظيفة الدعوة إلى الله رب العالمين من أشرف من الدعاة ومن أفضل على ظهر الأرض ممن يبلغون عن الله ، قال تعالى : {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [فصلت/33 ] .
من أحسن منه ومن أشرف منه ومن أكرم عند الله منه وهو السائر على درب الأنبياء والمرسلين ، ومع شرف هذه الوظيفة تخلى عنها الكثير من المسلمين والمسلمات ، فأنا أدين ربي – جل وعلا – بأن الدعوة العامة واجبة الآن على كل مسلم ومسلمة ، كل بحسب قدرته واستطاعته وإن كنت أرى أن الدعوى المتخصصة لها أهلها من العلماء العاملين والدعاة الربانيين وطلبة العلم الصادقين المخلصين ، فإنه لا ينفي أبداً أن يتحرك الآن لهذه الوظيفة الغالية كل مسلم ومسلمة ، فنحن لا نريد أن تتحول الأمة كلها إلى دعاة على المنابر في المساجد ، وإنما نريد أن تتحول الأمة كلها إلى دعاة على منبر الإسلام الكبير العظيم كل في موقع إنتاجه وموطن عطائه ، فما منا من أحد إلا وقد شهد للإسلام بلسانه مع إن أعظم خدمة نقدمها اليوم للإسلام هي أن نشهد له شهادة عملية خُلقية على أرض الواقع بعد ما شهدنا جميعا شهادة قولية بألستنا ، إذ إن الفعل إن خالف القول بذَر بذور النفاق في القلوب كما قال ربنا سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ{2} كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [ الصف / 3،2 ] وقد دلت الأدلة من القرآن والسنة على وجوب الدعوة إلى الله – جل وعلا – قال تعالى : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } [آل عمران/110].
خيرية الأمة ليست ذاتية ولا عرقية ولا عصبية ولكنها خيرية مستمدة من الرسالة العظيمة والأمانة الثقيلة التي شرفت الأمة بحملها إلى الناس في الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، فلقد اصطفى الله من الخلق الأنبياء ، واصطفى من الأنبياء الرسل وشرفهم بالبلاغ عنه والدعوة إليه – جل وعلا – ثم مَن على أمة الحبيب المحبوب – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فجعل الرسالة والأمانة في أمته فورثها علماء أمته من بعده r أقصد الدعوة المتخصصة ، ولا أقصد الدعوة العامة ، فهي فرض عين على كل مسلم كما بينت كل بحسب قدرته واستطاعته ، أما الدعوة المتخصصة فلها أهلها كما بينت .
لكنني أود أن أحث كل مسلم ومسلمة بالمساهمة بقدر ما يملك لشغل هذه الوظيفة الشاغرة التي تحتاج الآن إلى عدد المسلمين على وجه الأرض ليتحرك كل أحد بما يملك ، إن لم يستطع بلسانه فبلسان غيره من أهل العلم الصادقين والدعاة الربانيين ، وبجزء من ماله يخصصه لدين الله ، أو بالمشاركة الوجدانية والبدنية والقلبية والقولية في العمل لدين الله – تبارك وتعالى – ولو بتكثير سواد المسلمين في الخطب والمحاضرات العامة ، لأن تكثيرك لسواد المسلمين في مثل هذه اللقاءات شهادة عملية منك لدين الله – تبارك وتعالى – تفريغك لولد من أولادك ليحفظ القرآن الكريم أو ليحفظ كتاباً من كتب العلم أو متن من متون الفقه ، دليل عملي على ذلك وحبك لهذا الدين وهكذا .
ولم أر في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام
أنت تقدر أن تقدم أي شيء وتستطيع أن تقدم لدين الله أي شيء فمن الخذلان والحرمان أن تستطيع أن تبذل لله شيئا ولكنك تتقاعس عن فعل هذا الشيء في الوقت الذي لا تدخر فيه جهداً ، بل ولا وقتاً ولا عرقاً من أجل دراسة جدوى لمشروع من مشاريع الدنيا أو لتجارة من تجارات الدنيا ، فدين الله أعلى من كل ذلك لا يحتاج فقط إلا أن تحمل قلباً حياً يحمل هذا الدين ويحترق لواقع الأمة المرير .
فوالله ما انتشر الباطل وأهله إلا يوم أن تخلى عن الحق أهله ، فوالله ما انتشر الباطل وأهله إلا يوم أن تخلى عن الحق أهله ، فها نحن نرى دعاة الباطل ودعاة الكفر الآن يتحولون بكفرهم برجولة وبهمة عالية وبصدق وتفان في الوقت الذي نرى فيه هذه السلبية القاتلة في كثير من أفراد الأمة – ولا حول ولا قوة إلا بالله – فخيرية الأمة مستمدة من البلاغ من الأمر بالمعروف بمعروف ومن النهي عن المنكر بغير منكر ، ومن تحقيق الإيمان بالله – جل وعلا – بل وأمر الله سبحانه وتعالى – فقال : {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ آل عمران104].
وأمر الله سيد الدعاة وإمام التقاة محمدا r بقوله : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ } هذا أمر من الله : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل / 125 ] وقد يظن البعض أن هذا الأمر خاص بالنبي r وحده كلا كلا ، بل لن تنال شرف الانتساب إلى المصطفى إلا إذا رفعت الراية التي رفعها وبلغت الدعوة التي أرسل بها على بصيرة التي علمنا إياها رسول الله r قال – جل وعلا لنبينا : {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ } أنا وحدي لا {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف/108] .
قال ابن القيم : ولا يكون الرجل من أتباعه r حقا حتى يدعو إلى ما دعا إليه النبي r {عَلَى بَصِيرَةٍ } لتنال شرف الانتساب إلى سيدنا رسول الله r ولا يكون الرجل من أتباعه r حقا حتى يدعو إلى ما دعا إليه النبي r ، على بصيرة ، بل وتدبروا معي هذا التهديد والوعيد من الله – عز وجل – لمن ؟! لسيد الدعاة لحبيب الحق – تبارك وتعالى – للنبي محمد r يأمره الله أن يقول : { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً{22} إِلَّا بَلَاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [الجن / 23،22 ] يا للرهبة .
تدبروا الآية أيها الأفاضل ، الله يأمر نبيه بأن يبلغ { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} أي حماية ووقاية وملجأ إلا أن أبلغ دين الله ورسالة الله – عز وجل – فالعمل بدين الله والبلاغ عن الله والدعوة إلى الله ليست نافلة ولا تطوعا ولا اختيارا بل إنه الواجب الذي لا مفر من أدائه فالله – جل وعلا – من ورائه .
والآيات في هذا الباب كثيرة لا أريد أن أطيل النفس مع آيات القرآن ويأتي سيد الدعاة r ليبين لنا شرف وكرامة ومكانة هذه الوظيفة فيقول كما في صحيح البخاري وغيره من حديث عبد الله بن عمرو : (( بلغوا عني ولو آية ))(1) .
أخي كم تحفظ من الآيات ، ألم أقل لك بأننا أصبنا بالسلبية القاتلة ، لأنه ما منا من مسلم إلا ويحفظ قدراً ليس باليسير من كتاب الملك الكبير لكنك متصور أن الدعوة وظيفة الأنبياء والعلماء من بعدهم فحسب ، بل هي وظيفتك ووظيفتك أيتها المسلمة ، كل بما منُ الله عليه من آيات الله ، أو من تطبيق لدين الله في دنيا البشر ليتحول دين الله لمنهج حياة هذه أعظم وأشرف .
مصيبة دعوتنا أننا نقف الآن حجر عثرة في طريق انتشار الإسلام في الأرض ، لأن أخلاقنا تُكذب أقوالنا ، ولأن أعمالنا تُكذب أقوالنا ، ولأن أقوالنا تكذب أعمالنا خالف القول العمل ، وخالف العمل القول وشعر كثير من أهل الأرض بنطاق عملي غرق فيه كثير من المسلمين ، فما انتشر الإسلام في كثير من بلدان الأرض إلا بأخلاق وصدق تجار المسلمين ، حولوا هذا الدين إلى واقع عملي ، وإلى منهج دعوا غير المسلمين بالأخلاق والسلوك بالصدق والإخلاص والوفاء والأمانة .
ما قيمة محاضرة رنانة نستهل فيها بآيات الله وبأحاديث رسول الله r إن لم نحول هذه الأدلة القرآنية والنبوية في حياتنا إلى واقع عملي ومنهج حياة ، بل قد نجح رسول الله r في أن يطبع عشرات الآلاف من النسخ من المنهج الإسلامي يوم أن نجح في تربية أصحابه على هذا المنهج ، إذ إنه لم يطبع هذا المنهج بالحبر على صحائف الأوراق وإنما طبع هذا المنهج على قلوب الصحابة بمداد من التقى والهدى والنور .
فانطلق الجيل القرآني الفريد المبارك ليحول قرآن الله ومنهج سيدنا رسول الله r إلى منهج عملي في دنيا الناس يتألق سموا وروعة وعظمة وحركة وجلالا وعملا وتشييدا وعمارة وجهادا ، بل وبناءً في كل ميادين الحياة .
هذه أشرف دعوة ، وهذا أصدق بلاغ عن الله ورسوله r ، ما قيمة أن يلتحي ابن من أبنائنا وأخ من إخواننا وهو يريد أن يدخل الالتزام إلى البيت ، ثم يراه بعد ذلك والده وتراه بعد ذلك والدته قد انفلت من كل خلق كريم لا يكلم أباه إلا وقد ارتفع صوته ، ولا ينظر إلى أمه إلا وقد حد الطرف إليها ، ولا يعامل إخوانه وأخواته إلا بسوء أدب وغلظة وفظاظة هل تتصور أن البيت سيعشق التزامك الظاهر الذي أنت عليه كلا كلا .
ألا أيها المعلم غيره
تصف الدواء لذي سقم
ابدأ بنفسك وانهها عن غيها
هلا لنفسك كان ذا التعليم
لكي تصح منه وأنت سقيم
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
قال ربنا – جل وعلا : {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [البقرة/44] . قال رسول الله r : (( بلغوا عني ولو آية )) .
ألم أقل لك : إنك مقصر ؟! أنت مقصر في البلاغ عن الله في الدعوى إلى الله .
((بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علىّّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ))(1) .
وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والترمذي وغيرهما من حديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أنه r قال : نضر الله امراً )) .
اللهم لا تحرمنا من هذا الدعاء ، رسول الله يدعوا لك أيها المبلغ عن الله ورسوله بنضارة الوجه ونور الوجه : (( نضرّ الله امراً سمع منا حديثا فبلغه كما سمعه فرب مبلَّغ أوعى من سامع )) (2).
علام تحرم نفسك من بركة دعاء رسول الله r فبلغ عن الله وبلغ عن رسول الله ، بل أعلم أن الله – عز وجل – إذا منَّ عليك ، وهدى الله بك فلا تتصور أنك تهدي أحدا لا.
فإذا هدى الله على يديك رجلاً أو امرأة فأعلم بأن أجر هذا الرجل في ميزان حسناتك {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ {88} إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء/ 89،88] وهنا تظهر بركة الحبيب المصطفى فكل الأمة يوم القيامة في ميزان رسول الله r قال رسول الله r كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة (( من دعا إلى هدى)) اللهم اجعلنا من الدعاة إلى الهدى : (( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه ))(3) .
الله أكبر ، الله أكبر ، بشريط يا أخي بشريط واحد ضعه في سيارة ، لك أجر هذا الداعي، ولك أجر من يهتدي بفضل الله بسماع هذا الشريط ، كما تفكر في أوراقك أن تضعها في حقيبتك من الليل ، لأنك على سفر في الصباح الباكر ، للسفر إلى القاهرة من أجل أن تقدم أوراقك لوظيفة وأنت تستطيع أن تشغل أشرف وظيفة .
فكر في أن تضع مع أوراقك شريطاً لداعية من الدعاة أو لعالم من العلماء ، وقدم هذا الشريط هدية للسائق ، بلغ بأي صورة من الصور ، المهم أن يحرق الواقع قلبك ، وألا تنظر إلى المنكرات وتمضي وتهز كتفيك ، وكأن الأمر لا يعنيك .
لا ، فنحن جميعا نركب سفينة واحدة ، لا تتصور أنك ستنجو بصلاحك و تقواك وسيهلك المفسدون فحسب ، بل إن هلك الطالحون ، هلك معهم الصالحون وإن غرق المفسدون غرق معهم الطيبون لماذا ؟ لأنهم أصيبوا بالسلبية القاتلة فينظر أحدهم إلى هذا الكفر الذي ساد الأرض وإلى المنكرات التي انتشرت ويهز كتفيه ويمضي وكأن الأمر لا يعنيه .
قال رسول الله r كما في صحيح البخاري وغيره من حديث النعمان بن بشير : (( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فقالوا : لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقا حتى لا نؤذي من فوقنا )) قال رسول الله : ((لو تركوهم وما أرادوا لهلكوا جميعا )) .
فلاحظ أن النبي r لم يكرر لفظ الهلاك : (( لهلكوا جميعا ولو أخذوا على أيديهم لنجوا ونجوا جميعا )) (1) .
وفي الصحيحين منم حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش – رضي الله عنها – أن النبي r قام من نومه عندها يوماً فزعا وفي لفظ في الصحيح دخل عليها رسول الله r يوما فزعا وهو يقول : (( لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه )) وحلق الحبيب بإصبعيه بالسبابة والإبهام . فقالت أم المؤمنين زينب : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال : (( نعم إذا كثر الخبث )) ([1]).
وأنا أقسم بالله أن الخبث قد كثر قال : (( نعم إذا كثر الخبث )) (( منن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )) .
وأختم هذا العنصر الأول بهذا الحديث الجليل الذي رواه مسلم وغيره من حديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أنه r قال : (( ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب )) اللهم اجعلنا من حواري رسول الله (( ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه )) ألم أقل لك ؟ إنه ليس لك عذر إن لم تبلغ بقدر ما تستطيع ولو بقلبك ولو أن تنكر المنكرات التي استفحلت بقلبك (( ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء هذا من الإيمان حبة خردل )) ([2]).
بعد هذا الفضل أيها الأفاضل هل يتخلى عن هذه الوظيفة إلا مخذول أو محروم ، هل يتخلى عن هذه الوظيفة الشاغرة إلا مخذول أو محروم قد يبرر بعض إخواني لنفسه سلبيته ويستدل على ذلك بآية من كتاب الله ، وقد قلت قبل ذلك مرارا : إن المشكلة ما كانت في الدليل قط وإنما المشكلة دائما في فهم الدليل وتحقيق مناطات الدليل .
قد يستدل كثير من المسلمين على سلبيتهم بآية من كتاب الله فيقول : قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [المائدة/ 105] ولقد خشى الصديق أبو بكر – رضي الله عنه – هذه السلبية القاتلة من خلال الفهم المغلوط لهذه الآية الكريمة ، فارتقى الصديق المنبر فحمد الله وأثنى عليه فقال : أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها وإني سمعت رسول الله r يقول : (( إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك الله أن يغمهم بعقاب منه )) ([3]).
والحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي بسند صحيح بشواهده : أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها وإني سمعت رسول الله r يقول : ((إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك الله أن يغمهم بعقاب منه )) .
فغير المنكر يا أخي بغير منكر ومر بالمعروف بمعروف ، فما كان الرفق في شيء إلا زانه ، وما نزع الرفق من شيء إلا شانه ، والشدة تلإفسد ولا تصلح ، والعنف يهدم دائما ولا يبني ومن أروع ما قال إمامنا ابن القيم – لله دره : إن النبي r قد شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل من المعروف ما يحبه الله ورسوله .. فإن كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر من المنكر ، فهو أمر بمنكر وسعي في معصية الله ورسوله ، ولقد كان النبي r هذا الكلام لابن القيم : وقد كان النبي r يرى في مكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها .
فقد يرد شاب من شبابنا المخلص المتحمس ويقول : كان هذا في مرحلة الاستضعاف في مكة ، ولكن تدبر أخي ولا تتعجل فالحماس وحده لا يكفي والإخلاص وحده لا يكفي، بل لا بد أن يكون الإخلاص والحماس منضبطين بضوابط الشرع بفهم دقيق ووعي عميق للأدلة ومراتبها ومناطاتها حتى لا نستدل بدليل دون تحقيق ، قال : بل لما فتح الله عليه مكة وصارت مكة دار إسلام وعزم النبي r على هدم البيت الحرام ورده على قواعد إبراهيم لم يفعل النبي ذلك مع قدرته على فعل ذلك ، لأن قريشا كانت حديثة عهد بكفر وقريبة عهد بإسلام ([4]).
نعم أيها الحبيب تحرك بعد ما سقت كل هذه الآيات والأحاديث .
فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتصغر في عين العظيم العظائم
هيا أيها الطالب ، يا من أنهيت الامتحانات ودخلت عليك الأجازة الصيفية ، هيا أقبل بهمة عالية على حفظ كتاب الله ، على حفظ متن من المتون العلمية ، على حلقة من حلقات القرآن ، لكي يتعلم فيها المسلمون كتاب ربي جل وعلا – أو أن تحفّظ فيها أطفال المسلمين عشرة أحاديث من أحاديث رسول الله r الصحيحة .
المهم أن تبذل أي شيء لدين الله .
فإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
تعال معي للتعرف على أصول هذا المنهج الدعوي، إذ إن المنهج الدعوي توقيفي، لن يتركه الله لنبي فضلا عن عالم أو داعية ليختار لنفسه أصول ومنهج الدعوة إلى الله.
وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء سمات المنهج :
أيها الحبيب اللبيب ! لا يجوز أن تتحرك للدعوة إلى الله إن كنت من المتخصصين من الأئمة والخطباء أو الدعاة أو طلبة العلم لا يجوز لك ، أن تخطو على هذا الدرب المنير خطوة واحدة وأنت المتخصص في الباب ، إلا إذا وقفت على منهج سادة وأئمة الدعاة إلى الله ، وهم الأنبياء والمرسلون ، فاسمح لي قبل أن أبين لك بإيجاز شديد وإلا فإن الموضوع يحتاج إلى سلسلة كاملة اسمح لي أن أبين لك جواباً على سؤال خطير جداً يقفز الآن إلى أذهان الكثيرين في عصر وصلت فيه البشرية إلى هذا التقدم العلمي المذهل في شتى الميادين ، يتساءل الآن كثير من الناس في وقت فجرت فيه البشرية الذرة وصدرت إلى الفضاء أتوبيس الفضاء (ديسكفري) وصنعت القنبلة النووية ، وحولت العالم كله إلى قرية صغيرة عن طريق هذا التقدم المذهل في عالم الاتصالات والمواصلات ، فأصبحت ترى هنا ما يحدث في أقصى الشرق في التو واللحظة يسأل الآن كثير من الناس ويقولون : أليس الإذعان إلى منهج الأنبياء والرسل في عصر بلغ فيه العقل البشري ما بلغ ، أليس الإذعان إلى منهج الأنبياء والرسل يشكل الآن حجْرا على العقل البشري المبدع ؟ أليست البشرية الآن قادرة على أن تحيا وحدها بعيدة عن منهج الأنبياء والمرسلين ، أليس الإنقياد للأنبياء والرسل يشكل حِجراً على هذا العقل البشري المبدع ؟
وأنا لا أنكر ما وصلت إليه البشرية في الجانب العلمي ، لا أنكر ذلك ولكنني أقول بأن الحياة لا يمكن أبداً أن تتوقف عند هذا الجانب المادي والعلمي فحسب ، إذ لا يستطيع طائر جبار أن يحلق في أجواء الفضاء بجناح واحد ولو نجح في ذلك فترة واحدة ولو طالت ، فإنه حتماً سيسقط على الأرض لينكسر جناحه الآخر ، فالحياة روح ومادة وقلب وعقل ودين ودنيا ، ولو أردت أن تتعرف على قيمة العقل البشري في الجانب الآخر الذي لا بد فيه ، وحتماً للعقل البشري أن يرجع إلى الأنبياء والرسل .
ألا وهو جانب الإيمان بالله ، ألا وهو الجانب الأخلاقي ألا وهو الجانب الروحي، لا يستطيع العقل مهما بلغ في شأن المادة أن يتعرف على الله بأسماء جلاله وصفات كماله، وأن يتعرف على حقائق الوحي الرباني إلا عن طريق الأنبياء والمرسلين ، وإن أردت مني أن أفصل لك شيئا ما ، فانظر إلى العقل البشري في هذا الجانب ستراه قد سقط في المستنقع الآثم والحضيض العفن يوم تكبر على منهج الأنبياء والرسل ، فها هو العقل الأمريكي الجبار في جانب المادة والعلم قد عبد عيسى ابن مريم من دون الله – جل وعلا- بل ويدافع قادته وزعمائه عن الشذوذ الجنسي الفاضح ، بل ويدافع هذا العقل عن العنصرية اللونية البغيضة ، بل ويتغنى هذا العقل بالحرية والديمقراطية المشؤومة في الوقت الذي يسحق فيه الأحرار في كل مكان على وجه الأرض .
وهذا هو العقل الروسي شعاره بأنه يؤمن بثلاثة ويكفر بثلاثة : يؤمن بلينين وستالين والملكية العامة ، ويكفر بالله وبالدين وبالملكية الخاصة ، وهذا هو العقل اليوناني يدافع عن الدعارة ومصارعة الثيران .
وهذا هو العقل الهندي يدافع عن عبادة البقرة إلى يومنا هذا ، بل لقد صرح يوما زعيمهم الكبير ((غاندي)) في مؤتمر صحفي عالمي وقال : إنه يعلن أمام العالم بأنه سيظل يدافع عن عبادة الشعب الهندي
للبقرة ثم قال : إن أمه البقرة أحب إليه من أمه التي ولدته قيل : كيف ذلك أيها العجل الكبير ؟ قال : لأن أمه التي ولدته وحملته تسعة أشهر وأرضعته حولين كاملين وهي في مقابل ذلك تطالبه بخدمته طوال حياتها ، لكن أمه البقرة لا تطالبه البتة بشيء من ذلك ، بل هذا العقل الهندي ما زال إلى اليوم يعبد الفئران .
هل تتصور أن يصبح الفأر إلهاً في زمن الأزمنة ؟ بل وهذا هو العقل العربي في الجاهلية يقتل البنات خشية الفقر والعار { وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ{8} بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } [التكوير / 9،8] وهذا عقل يقول : آمنت بحزب البعث ربا لا شريك له وبالعروبة دينا ما له ثانٍ وهذا عقل يقول :
هبوني عيدا يجعل العرب أمة
سلام على كفر يوحد بيننا
وسيروا بجثماني على دين برهم
وأهلا وسهلا بعده بجهنم
وهذا عقل يقول : إن مصر ستظل فرعونية ولو وقف الإسلام حجر عثرة في طريق فرعونيتنا لنحينا الإسلام جانبا لتظل مصر فرعونية . وهذا عقل يقول إن التوحيد قد ظلم المرأة قيل : كيف ذلك ؟ قالت صاحبة هذا العقل العفن : لأن كلمة التوحيد لا إله إلا هو ولِمَ لم تكن : لا إله إلا هي .
هذا عقل ، هذا هو العقل البشري حينما ينحرف عن منهج الأنبياء والرسل بل يا أخي لا يوجد على وجه الأرض عقل يفوق عقل الحبيب المصطفى r ومع ذلك قال الله لنبينا : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا } [ الشورى / 52] .
رسول الله بعقله المنير الكريم الطاهر الذكي المبارك ما كان يعلم شيئا عن الوحي ولا عن الكتاب ولا عن الإيمان بعقله ، إلا بعد أن أوحى الله إليه ولذلك – لله در ابن القيم – إذ يقول :
لا يستقل العقل دون هداية
كالطرف دون النور ليس بمدرك
نور النبوة لم ينلك ضياءها
طرق الهدى محدودة إلا على
فإذا عدلت عن الطريق تعمدا
يا طالباً درك الهوى في العقل دو
علم العليم وعقل العاقل اختلفا
العلم قال أنا أحرزت غايته
فأفصح العلم إفصاحا وقال له
فأيقن العقل أن العلم سيده
بالوحي تأصيلا ولا تفصيلا
حتى يراه بكرة وأصيلا
فالعقل لا يهديك قط سبيلا
من أم هذا الوحي والتنزيلا
فأعلم بأنك ما أردت وصولا
ن النقل لن تلقى لذلك دليلا
من ذا الذي فيهما قد أحرزا الشرفا
والعقل قال أنا الرحمن بي عرفا
بأينا الله في قرآنه اتصفا
فقبّل رأس العلم وانصرفا
لا سعادة للبشرية إلا بمنهج الأنبياء والمرسلين ، ومنهجهم واحد ، ودينهم واحد وهدفهم واحد وغايتهم واحدة ، دين كل الأنبياء الإسلام ، ما أنزل الله ديناً في الأرض أبدا إلا الإسلام ، {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [ آل عمران / 19] فما من رسول ولا نبي إلا بعثه الله – جل وعلا – بالإسلام بداية من نبي الله نوح الذي قال كما قال عنه ربنا حكاية عنه في سورة يونس : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [يونس/72] ودين إبراهيم هو الإسلام : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ{127} رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }[ البقرة 128،127 ] ، دين يعقوب هو الإسلام : {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة/133] ، ودين موسى هو الإسلام قال تعالى حكاية عنه : {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ }[يونس/84] ودين عيسى هو الإسلام قال تعالى : {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ }[المائدة/111] ، ودين سليمان هو الإسلام : {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ{29} إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ{30} أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}[ النمل / 29-31 ] ، ودين يوسف هو الإسلام قال تعالى حكاية عنه : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً} [يوسف / 101 ] بل وإن دين الجن المؤمنين هو الإسلام قال الله عز وجل حكاية عنهم قال تعالى : {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً{14} وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [ الجن / 15،14] ، ودين لبنة التمام ومسك الختام المصطفى هو الإسلام : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}[ المائدة3] .
قال – جل وعلا : {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }[آل عمران/85] .
فيا من اختارك الله مسلما اسجد لربك شكرا أن خلقك موحدا وجعلك من أمة سيد الموحدين .
ومما زادني فخرا وتيها
دخولي تحت قولك يا عبادي
وكدت بأخمصي أطأ الثريا
وأن صيرت أحمد لي نبيا
ومن ثم من كذّب واحدا من الأنبياء فقط فقد كذّب جميع إخوانه من النبيين والمرسلين ، ولا يصح لك إيمان إلا إن آمنت بالله وبكل أنبيائه ورسله : {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }[البقرة/285] من كفر بنبي واحد فقد كفر بجميع إخوانه ومن كذّب نبيا واحدا ، فقد كذّب جميع إخوانه من النبيين والمرسلين ، فمن المعلوم أيها الأحبة أن قوم نوح ما كذبوا إلا نوحا وحده – عليه السلام – ومع ذلك قال تعالى : {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ }[الشعراء/105]، وما كذب قوم لوط إلا لوطاً – عليه السلام – ومع ذلك قال تعالى : {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ }[الشعراء/160] وما كذب قوم عاد إلا هوداً – عليه السلام – ومع ذلك قال تعالى : {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ }[الشعراء/123] بل وفي آية واضحة يبين الله هذا الحكم الحاسم في سورة النساء فيقول – جل وعلا : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً{150} أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً}[ النساء / 151،150] .
ما أبرز سمات منهج الأنبياء والرسل في الدعوة إلى الله ، والجواب في عجالة سريعة بعد جلسة الاستراحة وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ، لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، اللهم صلّ وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه ، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين ..
أما بعد :
فيا أيها الأحبة الكرام أبرز سمات المنهج الدعوي للأنبياء والرسل ليحققه كل سائر على هذا الدرب المنير الكريم ، أبرز سمة : البدء بدعوة الناس لدين الله بشموله وكماله ، لا يجوز أيها الداعي أن تخطو على الطريق خطوة واحدة إلا بع أن تتعلم لتبدأ بدعوة الناس إلى العقيدة والتوحيد بشموله وكماله ، فنقطة البدء على طريق الأنبياء والمرسلين هي التوحيد: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل/36] ، وقال تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ }[الأنبياء/25] ، قال تعالى : {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ}[ هود /61] ، قال تعالى : {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ}[ هود/84] .
نقطة البدء أيها الدعاة على طريق رسل الله وأنبياء الله هي الدعوة إلى التوحيد ، فأنا أدين الله بأن الأمة لن تخرج من حالة الذل والهوان التي نحياها ، إلا إن عادت من جديد إلى نقطة البدء هذه ، إلى التوحيد بشموله وكماله ، إذ إن الإسلام عقيدة تنبثق منها شريعة تنظم هذه الشريعة كل شؤون الحياة ولا يقبل الله من قوم شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم ، وها هو سيد الدعاة r يبين لتلميذ من تلاميذ الدعوة النبوية المحمدية يبين لمعاذ بن جبل فقه الأولويات في الدعوة إلى الله فيقول له – والحديث في الصحيحين : (( يا معذ إنك تأتي قوما أهل كتاب )) .. يعني في اليمن (( فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك )) .
انظر إلى فقه الأولويات في الدعوة إلى الله (( فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم بأن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ، فأن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم بأن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم فإن هم أطاعوا لذلك وإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب )) (1) .
دعوة إلى التوحيد بشموله وكماله لا تقف عند جزئية من جزئيات الدين على أنها كل الدين ، لا يا أخي ادعُ إلى التوحيد إلى شموله وكماله كما دعا سيد الدعاة وإمام الموحدين لا أريد أن أطيل النفس .
ثانيا : من سمات المنهج البلاغ والبيان والحكمة البالغة والموعظة الحسنة : { فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ }[النحل/35] ، قال تعالى : {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ}[المائدة/99] ، قال تعالى : { فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ } ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}[المائدة/67] ، قال تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}[إبراهيم/4] ، قال تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل/125] ، قال تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران/159]، قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى{43} فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه/44،43] الآيات كثيرة جدا بلاغا عن الله وبيانا بحكمة برحمة بأدب بتواضع .
أيها الدعاة إلى الله أيها الطلبة إننا لا نتعامل مع ملائكة بررة ، ولا نتعامل مع شياطين مردة ، ولا نتعامل مع أحجار صلدة ، إنما نتعامل مع نفوس بشرية فيها الإقبال والإحجام ، فيها الحلال والحرام فيها الخير والشر ، فيها الفجور والتقوى ، فيها الهدى والضلال ، فكونوا على بصيرة بمفاتيح هذه النفوس البشرية ، وهذه المفاتيح لأصول هذا المنهج الدعوي ، الذي حدده الله للأنبياء والمرسلين وهم أشرف من دعوا إلى رب العالمين.
فلا يجوز لداعية على الإطلاق أن يسلك هذا الدرب إلا وقد حصل أصول هذا المنهج الدعوي حتى لا تفسد من حيث تريد الإصلاح ، وحتى لا تضر من حيث تريد النفع .
الحكمة هي فعل ما ينبغي ، في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي وأركانها: العلم والحلم والأناءة وآفاتها ، وأضدادها : الجهل والطيش والعجلة .
والرحمة سمة رقراقة وصفة جميلة بها يفتح الداعية قلبه إلى الخير ، هل رأيتم طبيباً قط أغلق عيادته في وجه المرضى ، لأنهم دخلوا عيادته بالمرض بل لم يفتح عيادته إلا لأصحاب الأمراض ، وأنتم أيها الدعاة أطباء القلوب فارحموا المرضى من أهل المعاصي والذنوب ، ووجهوهم إلى علام الغيوب ، وانقلوهم من المعصية إلى الطاعة ، ومن البدعة إلى السنة ، ومن الشر إلى الخير ، ومن الحرام إلى الحلال ، ومن الفجور إلى التقوى ، ومن الضلال إلى الهدى ، ولن يكون ذلك أبدا إلا بكلمة رقيقة ، إلا بكلمة رحيمة ، إلا بتواضع لله وذل وانكسار بين يديه – جل وعلا – لا تحدث الناس بلسان حالك يقول : أنا التقي وأنتم الأشقياء ، أنا المتبع وأنتم المبتدعون ، أنا الطائع وأنتم أهل المعاصي ، أنا التقي وأنتم الأشقياء .
لا ، يا أخي ورب الكعبة قلبك كريشة ملقاة في جو عاصف تقلبها الرياح في ثانية عشرات بل آلاف المرات .
أنت لا تضمن أبدا على أي حال سيختم لك ، قلبك بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء ووالله لو تخلى الله عنا بستره طرفة عين لافتضحنا في الدنيا قبل الآخرة ولا تنس قول ربك: {َذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ}[النساء/94].
تحرك بين الناس برحمة ولا أريد أن أستدل على كل عنصر فالأدلة كثيرة ، لكن سأذكر حديثاً واحداً فقط رواه أبو داود وأحمد والترمذي وغيرهم وهو صحيح بمجموع طرقه ، أن سلمة بن صخر وهو رجل من الأنصار جامع امرأته يوما في نهار رمضان ثم ظاهر منها – يعني : قال لها : أنت عليّ كظهر أمي – حتى ينصرف رمضان خَشي أن يجامعها مرة أخرى فظاهر منها حتى ينقضي الشهر – وقع في أمرين عظيمين جامع وظاهر ، فلما أصبح قال لقومه : انطلقوا معي إلى رسول الله r لأخبره خبري قالوا : لا والله لن ننطلق معك نخشى أن يُنزل الله فينا قرآنا ، أو أن يقول فينا رسول الله كلمة تبقى عاراً علينا أبد الدهر ، فانطلق أنت إلى رسول الله واصنع ما بدا لك .
فانطلق سلمة بن صخر إلى النبي r فأخبره أنه جامع امرأته في نهار رمضان ثم ظاهر منها فقال له النبي r: ((أنت بذاك أنت بذاك)) يعني : أنت الذي ارتكبت هذين الأمرين العظيمين قال: أنا بذاك فقال له النبي: ((أنت بذالك)) قال أنا بذاك فأمض في حكم الله ، فإني صابر له يا رسول الله فقال له النبي r: ((أعتق رقبة)) فضرب سلمة بن صخر على صفحة رقبته هو وقال: والذي بعثك بالحق لا أملك غيرها ، والذي بعثك بالحق لا أملك غيرها ، فقال له النبي r: ((فصم شهرين متتابعين)) قال : وهل حصل ما حصل إلا في الصيام يا رسول الله ، قال له النبي r : ((فأطعم ستين مسكينا)) قال : والله لقد بتنا الليلة بدون عشاء . ( لا يوجد مخرج ) فقال له صاحب القلب الكبير – بأبي هو وأمي وروحي : انطلق إلى صاحب صدقة بني زريق – وهم قوم سلمة – انطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له : يأمرك رسول الله أن تدفع لي الصدقة فأطعم منها ستين مسكينا واستعن بما بقى منها أنت وعيالك )) .. فانطلق سلمة إلى قومه وقال : يا قوم والله لقد وجدت عندكم الضيق وسوء الرد ووجدت عند رسول الله السعة والبركة وقد أمرني أن تدفعوا لي صدقتكم فادفعوها لي ، فدفعوها له فأطعم ستين مسكينا واستعان بما بقى منها لأهله وعياله (1) .
هذا هو رسول الله r ، لا نعدد هذه المناهج من أجل الاستمتاع السالب ولا للثقافة الذهنية الباردة الباهتة ، بل ليحول كل سائر على هذا الدرب المنير هذا المنهج الرباني والنبوي إلى واقع عملي وإلى منهج حياة .