الحياة كان لونها بمبي في شهر العسل ، وأحس العريس السعيد أنه تزوج عصفورة كناريا
ليس لها مثيل في رشاقتها وجمالها وزقزقتها أيضا ، تحولت الكناريا تدريجيا لببغاء لايكف
عن الكلام والمطالبة والمحاسبة والزن ليل نهار ، وفكر البلبل في ترك العش نهائيا ليفر بجلده ،
وعندها تدخل الكبار ليعيدوه برفق وعاد ولكنه لم يعد سعيدا .
البنت كانت مظلومة فقد تربت في حالة من الجوع العاطفي والاجتماعي ، من المدرسة للبيت ،
لا زيارات ولا هوايات ولا علاقات اجتماعية مشبعة ، هذا مع الشحن العاطفي الدائم من الإعلام
الذي لا يتناول إلا موضوع الحب بين الجنسين ويختزل فيه كل العاطفة ، أخيرا تزوجت
وفتحت طريقا لمخزونها العاطفي الكبير فأغرقت به حبيبها .
في المجتمعات التقليدية أيام أمهاتنا وجداتنا كانت الفتاة تحيا في ظل أسرتها الممتدة الكبيرة ،
كانت ترتبط بعمتها الحنون وتتعلم من خالتها الشابة وتصادق ابنة خالها وتخاصم ابنة عمها
ثم تصالحها وهكذا ، حياة غنية بالمشاعر المختلفة مثل خلية النحل تأز وتطن وتمتلأ عملا وأملا
وحيوية وتنتج العسل والشهد ولا تخلو من القرص واللسع المفيد أحيانا ،
فإذا انتقلت لبيت الزوجية فتحت أمامها أبوابا جديدة ، فهي تخشي حماتها
وتحب أخت زوجها الصغيرة ولا ترتاح مع الكبيرة ،
ثم إنها تعلمت صنع التورتة من ( سلفتها ) ( زوجة أخو زوجها ) واستمعت لنصيحة زوجية
همست بها عمته في أذنها أفادتها كثيرا ، وردت لها الجميل فكانت تذاكر لابنتها الصغيرة.
يمضي يومها في نشاط وحيوية دائبة ، تعلم وتتعلم ، تفرح وتغضب ، تتعب وترتاح
تجامل وتجادل وهكذا ، فإذا عاد زوجها من العمل كانت قد استنفدت الكثير من شحنتها العاطفية ،
وقامت بالكثير من الأعمال النافعة وما بقي لديها هو ما يكفي زوجها بالكاد ، فتظل في نظره
كائنا متجددا مطلوبا علي الدوام ، كما أنها عبر تلك التفاعلات تكون قد أدمجت نفسها في
نسيج الأسرة الاجتماعي ، أيضا تفتح أبوابا جديدة للزوج نفسه .
لكن نزعة الانعزال والانكفاء علي الذات التي طرأت علينا أفقدتنا الكثير ، ليت كل أم تعرف
أن مقاطعتها لأخت زوجها ليست مكسبا لها كما تظن في سعيها غير المحمود للاستئثار بالزوج ،
فهي بذلك تطفئ شمعة كانت ستنير دربها ودرب ابنتها وتغلق نافذة خير كانت ستتنفس عبرها
وتجدد هواء حياتها ، البنت التي تتربي في جو انعزالي قاتم قاطع للرحم وتظلله سحب الوحده
والكراهية لا تجد منفذا طبيعيا لمشاعرها الفطرية ، ومع التشديد علي الاكتفاء بالمذاكرة
والامتناع عن ممارسة الهوايات والنزهات البريئة ، فإن مشاعرها تكبت بداخلها
فإذا تزوجت وجدت أخيرا مصرفا يرضي عنه الجميع لعواطفها فتغدقها بإسراف
وتحولها من حب صحي إلي رغبة في التملك ، وفرصة لتعويض كل ما فاتها ،
فقد وجدت أخيرا إنسانا يسمعها ويقدرها ويتفهمها ، ولكن عندما يزيد الشئ عن حده يتحول
إلي قيد خانق وشعور مبالغ فيه مرفوض ، وتفاجأ برد فعل الزوج .
يقول الإنجليز ( لقد ابتعت منزلا وأتمني أن أجعله بيتي ) ليتنا نحرص علي أن نحول منازلنا من
مساكن تحوي اغترابا وتفرز وحدة وانطواء وعجز اجتماعي ، إلي بيوتا تلم شمل العائلة
وتمنح الأبناء ثراء إنسانيا ومدرسة مجانية يتعلمون فيها كيف يصنعون السعادة والنجاح ،
هل نعجز عن صنع خلية لمجتمعنا مثلما يفعل النحل ؟ أو نكون سربا سابحا في تناغم مثل الطيور ،
ولا نكون كالشاة الشاردة المعرضة دائما للخطر .
صحيح أن هناك مشاكل وخلافات قد تنشب داخل الأسرة الكبيرة وهذا طبيعي للغاية ،
وليس معناه أبدا المسارعة للقطيعة والتنافر ، للعائلة أمواج من المد والجزر
والتدافع المثمر وتحملها علي أية حال أفضل من حياة الجدب والجفاف .
داخل العائلة ستتعلم الفتاة أن لكل شئ مقداره الذي لا يجب تجاوزه حتي الحب ،
وسوف تنمو اجتماعية منفتحة علي الآخرين لديها قدرة علي العطاء ولديها دائما
ما يشغلها وسوف تعرف أن العش الجديد يحتاج صلات قوية بأصوله حتي يستقر .
يحتاج طائر الكناريا إلي الحرية ليظل يغرد وينشر السعادة ،
يحتاج عائلة كبيرة تحميه وهوايات تشغله وعمل نافع يبدعه ،
ولابأس بأن يحلق ويرفرف وتشجينا أغاريده مادام دائما داخل السرب .