-هجرة الحبشة الثّانية
ذكرنا سابقًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أخذ قرار الهجرة الثانية؛ نظرًا للأسباب التي رأيناها، وكان هذا القرار أصعب مائة مرة من قرار الهجرة الأولى، وكان ذلك للأسباب الآتية:
أولاً: أن قريشًا الآن قد أخذت حذرها وأغلقت أبواب مكة، وأوقفت حراسها على مداخلها ومخارجها، فقد علمت خطورة انطلاق المسلمين إلى الحبشة، وهي الآن تحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تمنع المسلمين عن الهجرة.
ثانيًا: كان العدد في هذه المرة أكثر، فقد كان عددهم قُرابة المائة من المؤمنين، من الرجال والنساء، إضافةً إلى أطفالهم، وهذا غير متاع المهاجر الذي لا يتوقع رجعة قريبة، كل هذا وهم يحاولون الهرب من هذه القرية الصغيرة مكة، ووسط الحصار والتربص والحذر من جانب قريش.
ثالثًا: أن هناك أسماء لامعة وبرّاقة سوف تهاجر هذه المرة، وإن الخطورة في خروج مثل هذه الأسماء ليست كامنة في ثقلها في مكة فقط، وإنما في كونها تخرج من داخل بيوتات زعماء قريش الذين ما فتئوا يحاربون الدعوة.
الهجرة الثانية والقرار الأصعب لقد كان من تلك الأسماء اللامعة المهاجرة:
1- السيدة أم حبيبة بنت سفيان بن حرب، وهي ابنة زعيم أهل مكة في ذلك الوقت، ومن أكبر المحاربين للدعوة.
2- أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وهو ابن كبير من زعماء الكفار (عتبة بن ربيعة)، والذي كان من أكبر المفاوضين، وممن آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسهم، وقد قتل في بدر بعد ذلك.
3- وكان سهيل بن عمرو الذي يُعدّ من أكبر زعماء وصناديد قريش، والمفاوض في صلح الحديبية، كان قد خرج من بيته ثلاثة مهاجرين هم: ابنتاه سهلة بنت سهيل بن عمرو، وأم كلثوم بنت سهيل بن عمرو، وابنه عبد الله بن سهيل بن عمرو.
4- فاطمة بنت صفوان بن أمية، وكان صفوان بن أمية من أكابر المشركين، ولم يؤمن إلا بعد فتح مكة.
5- فراس بن النضر بن الحارث، والنضر بن الحارث هو صاحب الأساطير والخرافات التي أتى بها من فارس؛ وذلك ليصرف الناس عن سماع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
7- هشام بن العاص بن وائل، والعاص بن وائل كان أيضًا من أكابر المجرمين، ومن الذين نزل فيهم القرآن يلعنهم، حيث قال سبحانه وتعالى: [أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا] {مريم: 77}.
فكان خروج مثل هؤلاء الأبناء والبنات من داخل بيوت الزعماء سيحدث زلزلة في مكة، وسيصاب كل زعيم من زعمائهم في كبريائه وذكائه وحكمته، وفي تقديره للأمور والأحداث، فكان ذلك - ولا شك - سيؤدي إلى هزة عنيفة لأهل الباطل.
معية الله ونجاح الهجرة:
في هذا الجو المشبع بالغيوم، ومن وراء تلك الخلفيات المعقدة، أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم قراره الشجاع بالهجرة إلى الحبشة للمرة الثانية، وقد أمّر على المهاجرين في هذه المرة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.
وفي واحدة من أعقد عمليات التمويه والإخفاء تبدأ الهجرة، ويتعاون الصغار والكبار والرجال والنساء على إنجاح تلك العملية الصعبة، وهم يبتهلون إلى الله بالدعاء والرجاء، ثم بفضل الله ومنِّه تنجح العملية، ويخرج من مكة وفي جنح الظلام قرابة المائة من الرجال والنساء يحملون أطفالهم ومتاعهم وزادهم، وينجيهم الله جميعًا، ولا يتمكن أهل الباطل من اكتشاف أمرهم، أو الإمساك بأي منهم، وعند ميناء على البحر الأحمر يجتمع المسلمون، وقد لهثت وراءهم مكة مؤخرًا، وذلك بعد استتباب أمر المسلمين، ولكن هيهات [إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ] {الحج: 38}. وإنها لمفارقة صعبة، وصدمة مدوية حين يستيقظ كفار قريش على فقد مائة نفس من بينهم، وإنه لفراغ هائل خلفه هؤلاء الصالحون وراءهم، وإن عدد المهاجرين هذا (قُرابة المائة نفس) ليعني أنه ما من بيت في مكة إلا وقد خرج منه ابن أو ابنة أو أخ أو أخت، أو عم أو غيرهم.
وقد وصل المهاجرون بفضل من الله إلى الحبشة، وقد استقبلهم النجاشي رحمه الله خير استقبال، وأحسن وفادتهم، وعاش المسلمون هناك في أمن وبركة ويسر.
أزلية الصراع بين الحق والباطل:
حيال نجاح أمر الهجرة هذا، هل تهدأ قريش؟ وهل تقبل بالأمر الواقع؟ وهل تفكر في إنهاء الصراع الطويل الذي كان بينها وبين المؤمنين وقد فصلت بينهما آلاف الأميال؟! أسئلة مهمة كانت قد فرضت نفسه وألقت بظلالها على موقف قريش بعد نجاح هجرة المؤمنين إلى الحبشة.
ولأنها سنة من سنن الله عز وجل الثابتة، ولأنها سنة السجال والصراع بين الحق والباطل، والتي حتمًا مآلها إزهاق الباطل، لم تهدأ قريش، ولم ترض بالأمر الواقع، ولم تفكر في إنهاء الصراع بينها وبين المؤمنين، وعز عليها أن يجد المهاجرون مأمنًا لأنفسهم ودينهم، وأغرتهم كراهيتهم للإسلام أن يحيكوا له المكائد، وإنه لو كان المؤمنون قد خرجوا جميعهم وتركوا الديار والبلد بكاملها، أيضًا فلن يقف الصراع، ولن تقف الحرب [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا] {البقرة: 217}.
ومن ثَمَّ قررت قريش أن تتبع المسلمين في الحبشة حتى تردهم، حتى ولو كان بينها وبينهم آلاف الأميال، لكنها لم يكن في مقدورها أن تهاجم الحبشة بجيش؛ فقوة الحبشة وبُعد المسافة، إضافة إلى تاريخ العلاقات الطيبة بين الحبشة ومكة، كل هذه الأمور وقفت سدًّا منيعًا حال دون حرب عسكرية، إذن فلتكن طريقة أخرى.
لقد قررت قريش إرسال سفراء يمثلونها للتفاوض مع ملك الحبشة بشأن المهاجرين المسلمين، فأرسلت وفدًا يطلب من ملك الحبشة أن يرد المسلمين إليها ولا يقبلهم في بلده، ولضمان نجاح هذه المهمة الخبيثة أخذت قريش بكل الأسباب المتاحة في يدها، فعملت على ما يلي:
أولاً: أرسلت على رأس الوفد رجلين من أمكر رجال قريش وأشدهم دهاءً، هما عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة (عمه الوليد بن المغيرة) وذلك قبل أن يُسلما، وكان عمرو بن العاص مشهورًا بالمكر والدهاء وحسن التصرف، ويستطيع بذكائه في حسابات قريش أن يمكر بالمسلمين. وفوق ذلك فهو صديق شخصي قديم للنجاشي نفسه، إذ كان عمرو بن العاص قبل ذلك مندوبًا لقريش في أمور التجارة والصداقة مع النجاشي، فلا شك أنه سيكون أكثر تأثيرًا في النجاشي من غيره. وفوق هذا وذاك فإن أخاه هشام بن العاص كان من بين المهاجرين إلى الحبشة، والذين ما جاء عمرو إلا من أجل التفاوض بشأنهم، فكان الأمر بالنسبة إلى عمرو لا يعدو إلا أن يكون قضية شخصية بحتة. وكذلك أيضًا كان الوضع بالنسبة للسفير الآخر عبد الله بن ربيعة؛ إذ كان أخوه عباس بن أبي ربيعة أيضًا من بين المهاجرين.
ثانيًا: حمّلت قريش الوفد بالهدايا الثمينة وبالذات من الجلود، وهي هدايا كانت تطيب كثيرًا لأهل الحبشة، فجهزوا قافلة ضخمة كنوع من الرشوة لملك الحبشة ولرجال الحكم هناك، وقد كلفتهم الكثير من المال [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] {الأنفال: 36}.
وفد قريش في الحبشة والقيام بالمهمة على أكمل وجهوصل وفد قريش إلى الحبشة، وهناك وبشيء من الحنكة والذكاء لم يدخل عمرو بن العاص على النجاشي مباشرة، بل ذهب أولاً إلى بطارقته، وإلى رجال الدين والوزراء وكبار القوم، والذين يجلسون عادة في مجلس النجاشي يشيرون عليه بالرأي، ذهب إليهم وقد ملأ أيديهم جميعًا بالهدايا العظيمة، ثم بدأ يطرح عليهم طلبه مرفقًا به حجته الدامغة؛ وذلك بهدف الوقوف معه ضد المسلمين أمام النجاشي.
وقد نجح عمرو بن العاص في هذه المهمة خير نجاح، وقبلوا منه جميعًا الهدايا، وسمعوا لرأيه واقتنعوا بفكرته، وبذلك يكون قد مهَّد الطريق تمامًا للحوار مع النجاشي. بعد ذلك دخل على النجاشي، وكان لقاءً حارًّا بين الصديقين، وقد أتى بالهدايا العظيمة وأهداها إليه، وقبلها منه النجاشي، وبعد أن اطمأنَّ عمرو بن العاص إلى وجود جميع البطارقة والوزراء معه، بدأ يعرض أمره ومهمته عليه، وكان ينتقي كلماته بدقة شديدة وبحكمة عظيمة، فقال: "أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء".
وكانت هذه سقطة من عمرو بن العاص، وكذبة كذبها على النجاشي؛ فكل المهاجرين كانوا من الأشراف العقلاء وليسوا من الغلمان السفهاء، لكنه أراد أن يحقر من شأن المسلمين اعتقادًا منه أنه من غير المعقول أن يقدم النجاشي كلام الغلمان السفهاء على كلام سفارة قريش الرسمية.
وبعد هذا السهم رمى بالسهم الثاني فقال: "فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدينٍ ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت".
وهذا فيه من الذكاء الشديد ما فيه؛ فهو يريد أن يوغر صدر النجاشي على المسلمين الذين لجئوا إلى بلده، فهم قد فارقوا دين قومهم ومع ذلك لم يدخلوا في دينه، فهم لم يراعوا حق الأهل ولا راعوا حق المضيف لهم.
ثم كان السهم الثالث:
"وقد بعثَنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم؛ فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه".
وفي هذا السهم الأخير أكثر من إشارة خفية، لكنها لا تخفى على ذكاء النجاشي.
أولاً: من وراء كلماته، وفي إشارة خفية بالتهديد بقطع العلاقات بين مكة والحبشة، ووقف المعاملات الاقتصادية والهدايا بين أشراف مكة وبين النجاشي يبعث عمرو بن العاص برسالة إلى النجاشي، وهي أنه أُرسل من قبل أشراف مكة ورؤسائها.
ثانيًا: وفي إشارة واضحة في أن لأشراف قريش وحدهم الحق في المهاجرين وعليهم، أعلمه أن آباء هؤلاء المهاجرين وأعمامهم هم هؤلاء الأشراف (أشراف مكة)، ومن ثَمَّ فإن لهم ما للآباء على الأبناء، والحال إذن كما لو أخطأ ولد في حق أبيه ثم جاء إلى بيتك هاربًا، ثم جاء أبوه بعد ذلك يطلبه، فالطبيعي هو أن تعيد الولد لأبيه، وأقصى ما في الأمر أن توصيه به خيرًا.
ثالثًا: يشير أيضًا عمرو بن العاص إلى أن النجاشي قد ينخدع في الحكم عليهم؛ بسبب حلاوة منطقهم وطلاقة لسانهم، لكن الذين يعلمونهم حق العلم هم الذين عاشوا معهم دهرًا طويلاً، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
وهكذا يكون عمرو بن العاص قد تكلم فأحسن الكلام، وأوجز فأحسن الطلب، وقد ضمّن كلامه حججًا وأدلة منطقية وقوية، وهي في الوقت ذاته لا تكاد تخلو من أدب جم وخلق رفيع، والمطلوب فيها واضحٌ وهو ردُّ المسلمين إلى مكة.
وفي محاولة لإتمام نجاح هذه المهمة ووفق خطة عمرو بن العاص المنهجية، ما إن انتهى من كلامه وقبل أن يتكلم النجاشي حتى أقبل البطارقة قائمين بدورهم أيضًا قائلين: "صدقا أيها الملك، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم".
عدل النجاشي وفقه المرحلة عند المهاجرينلأنه ملك لا يظلم عنده أحد، ولعلمه أنه من العدل والإنصاف قبل الحكم في القضية أن تسمع كلا الطرفين المتخاصمين، مهما كانت حجة الطرف الأول قوية، ومهما كانت العلاقة مع الطرف الأول وطيدة، ومهما كانت التبعات لأخذ القرار، كان رد النجاشي على عمرو بن العاص وعلى بطارقته:
لا والله، لا أسلمهم إليهما، ولا يُكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوَهم فأسألهم مما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
ثم أرسل النجاشي - رحمه الله - إلى المسلمين ليرى ردهم فيما قاله عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، وما إن وصلت الرسالة إلى المسلمين حتى عقدوا مجلسًا سريعًا للشورى، وقالوا: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ فكان أن اجتمعوا على أن يقولوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا، كائنًا في ذلك ما هو كائن.
لا تبديل لكلمات الله، وإن النجاة لفي مثل هذا الثبات، ثم أجمعوا على أن يتكلم منهم رجل واحد باسمهم، ولهذه المهمة العظيمة اختاروا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، ولعل ذلك كان للأسباب التالية:
1- أنه رئيس الوفد والممثل الرسمي له، ولا شك أنه قد التقى قبل ذلك بالنجاشي، وتحدث معه وأَلِف حواره.
2- أنه كان خطيبًا مفوهًا، ويتميز ببلاغة وفصاحة عظيمة وطلاقة لسان رائعة.
3- أنه كان من أشرف أشراف الوفد؛ فهو هاشمي قرشي، وهم بذلك يبطلون قول عمرو بن العاص: "إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء".
هذا، وقد ذهب المسلمون يتقدمهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه حيث طُلبوا، وهناك وجدوا النجاشي وقد جلس على كرسيه ومن حوله أساقفته وقد نشروا أناجيلهم، وعلى الناحية الأخرى كان يقف عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، وقد كرها أن يتكلم المسلمون لأنهم يعلمون حلاوة منطقهم.
افتتح النجاشي الاجتماع المهيب المرتقب بسؤال للمسلمين قد حمل كثير من علامات الاستفهام، قال النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من هذه الأمم؟!
فكانت المفاجأة بالنسبة لنا أننا اكتشفنا أن المهاجرين لم يعلنوا عن هويتهم، ولم يذكروا شيئًا البتة من قبل عن دينهم عندما دخلوا أرض الحبشة!!
وكان تفسير هذ الأمر هو أن الهدف المرحلي للمسلمين في هذه الفترة كان الحفاظ على الدين ممثلاً في المهاجرين، فقد أدرك المهاجرون أن قوتهم ضعيفة وقدراتهم محدودة، ولم يريدوا أن يفتحوا على أنفسهم جبهات جديدة، وكذلك أيضًا كانوا يتخوفون من أن أهل الحبشة النصارى قد يعترضون على دينهم، ومن هنا فقد آثروا كتمان أمرهم والمحافظة على سريتهم، وبمعنى أدق: اهتموا بالناحية الأمنية على حساب الناحية الدعوية في هذه المرحلة الحرجة من بداية الدعوة، فكان هذا هو فقه المرحلة، والذي برع فيه المسلمون، وساعدهم في ذلك أن النجاشي لم يسأل عن أشياء لم تبد له، بل اكتفى باستقبالهم بالمبرر الأوحد الذي ذكروه له، وهو أنهم قد ظلموا في بلادهم فلجئوا إليه، أما كيف ظلموا ولماذا؟ فهذا لم يدخل فيه، أما الآن فهناك مشكلة سياسية قد تحدث، وقد يكون كلام عمرو بن العاص صحيحًا ولا بد حينها من السؤال، وبالنسبة للمسلمين أيضًا فقد تغيرت المرحلة؛ حيث هم الآن يمثلون دين الإسلام، ولو قالوا كلامًا مغايرًا للحقيقة فقد يفهم الإسلام بصورة خاطئة، فلا بد إذن من ذكر الحقيقة كاملة ولكن بلباقة وكياسة.
خطاب جعفر بن أبي طالب وقوة الحقفي ثبات وثقة عالية تقدم جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - وألقى خطابًا جليلاً مهيبًا، إن دل على شيء فإنما هو الحق وقد أجراه الله على لسانه. وفي خطابه قَسّم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه كلماته إلى مقاطع عدة، يحمل كل مقطع منها معنى معين، ويصل به إلى هدف خاص.
المقطع الأول:
"أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف".
فقد بدأ جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - بتقبيح الحالة التي كانوا عليها قبل الإسلام، وتصوريها بصورة تأنف منها النفوس الكريمة، وتأباها العقول السليمة، وهو بهذا يرسل إشارة واضحة أيضًا تتضمن أن هذين الرسولين (عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة) ما زالا على هذه الصورة الخبيثة وتلك الأخلاق الفاسدة.
ونلاحظ أيضًا أن كل مساوئ الجاهلية التي صورها جعفر لا تبعد كثيرًا عن صفة الظلم؛ فكان هناك إما ظلم مع النفس وذلك بعبادة الأصنام [إِنَّ الشِّرْكَ لَظصلى الله عليه وسلمٌ عَظِيمٌ] {لقمان:13}، أو ظلم مع الرحم بقطع الأرحام، أو ظلم مع الجار بالإساءة إليه، أو ظلم مع الضعيف بأكل حقه.
ولنتخيل مثل هذه الصور من الظلم وهي تعرض على ملك عادل لا يُظلم عنده أحد، فكان تصدير جعفر بن أبي طالب بذكر مساوئ الجاهلية - ولا شك - قد ترك أثرًا عظيمًا في قلب النجاشي، بل في قلب أساقفته، فكان هذا المقطع من كلام جعفر - رضي الله عنه - سهمًا قد أُطلق في مقتل لقريش ووفدها.
المقطع الثاني:
قال جعفر: "فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه".
وهنا يشير جعفر إلى أن الذي جاء بهذا الدين الجديد والمخالف لما هم عليه جميعًا ليس رجلاً أفَّاكًا كذّابًا يريد خداع الناس من أجل مصلحة ما، بل هو صادق أمين، وطاهر عفيف، ومن أعرق أنسابنا، وقد جاء بالحق الواضح.
وإزاء هذه النعوت لم يستطع عمرو بن العاص ولا عبد الله بن أبي ربيعة أن يردا بكلمة واحدة؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق كل شبهة، هذا إضافةً إلى أن النصارى يؤمنون بالرسل بصفة عامة، فما أكثر الرسل التي تحدثت عنها التوراة والإنجيل.
المقطع الثالث:
وهو غاية في الروعة، فبعد أن عرض لصورة الجاهلية الحقيقية، أخذ في عرض الصورة المقابلة لها وهي صورة الإسلام، التي جاء بها هذا الرجل الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، فقال جعفر بن أبي طالب:
"فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام". تقول السيدة أم سلمة رضي الله عنها - وهي راوية القصة -: "فعدَّد عليه أمور الإسلام".
وفي ذلك التصوير لم يكذب جعفر رضي الله عنه ولم يتجمل، وإنما هي الحقيقة، فالباطل بطبيعته قبيح مقيت كريه، والإسلام بطبيعته حسن جميل محبوب، فقط عليك أن تعرض الصورة بوضوح، وستختار الفطرة السليمة دين ربها.
المقطع الرابع:
وهو غاية في الذكاء والتوفيق، قال جعفر:
"فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا".
ثم أتبع ذلك فقال:
"فعدَا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث".
وهنا يبرز جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه الدور القبيح للكافرين، وكان منهم آنذاك عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، ولا شك أن موقفهما أصبح ضعيفًا جدًّا، ولا ننسى هنا أن صور التعذيب والابتلاء تستهوي قلوب النصارى كثيرًا؛ فهي تذكرهم بالحواريين الذين عُذِّبوا من قبل، وبالذين كانوا يفتنونهم عن دينهم بأبشع الأساليب، بل تذكرهم بصورة المسيح عليه السلام.
وهكذا سيطر جعفر تمامًا على مشاعر النجاشي، بل وعلى مشاعر الأساقفة من حوله، وقد ختم رضي الله عنه بيانه هذا بمقطع سياسي حكيم قال فيه:
"فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألاّ نظلم عندك أيها الملك".
وهنا - وفي صدقٍ تام وفي غير نفاق ولا كذب - يرفع جعفر من شأن النجاشي، فيذكر أفضليته على من سواه في مثل مكانه، ويرفع من قيمة العدل عنده، وهو بذلك يكسب قلبه، فيلين جانبه وتهدأ نفسه؛ فلا يتسرع بحكم، ولا يجور في قضاء.
انتهى البيان المختصر من سفير المسلمين وقائد المهاجرين جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وكانت النتيجة هي خمسة سهام قوية في صدور الكافرين، وسكون - وإلى حد كبير - في جوارح الأساقفة الذين كانوا يتربصون بالمسلمين بعد أخذهم هدايا عمرو من قبل.
النجاشي وجعفر وحوار الفطرة السليمة والحق الجلي
أمام خطاب وبيان جعفر وقد بدا عليه وكأنه بدأ يقتنع بكلامه ويهتم بأمر هذا الدين الجديد، سأله النجاشي قائلاً: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟
قال جعفر: نعم.
قال النجاشي: اقرأه عليَّ.
وفي الآيات التي سيقرؤها على النجاشي فكر جعفر، ثم هداه الله عز وجل إلى اختيار موفَّق، فبرغم كثرة السور التي نزلت في مكة، إلا أنه رضي الله عنه اختار صدر سورة مريم.
اختار السورة التي تتحدث عن عيسى وزكريا ويحيى - عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم - اختار السورة ذات السياق العذب اللطيف، تلك التي تجذب قلوب السامعين وتأخذ بألبابهم وأفئدتهم، فتنشرح صدورهم لما جاء من عند الرحمن الرحيم، فقرأ جعفر:
[كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (
قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا] {مريم: 1- 22}.
لم يتحمل النصارى أثر تلك الكلمات المعجزة، فما تمالكوا أن انهمرت دموعهم غزيرة فياضة، وبكى النجاشي حتى ابتلت لحيته، وبكى الأساقفة، ولم تقف هدايا عمرو حائلاً بين كلام الله عز وجل وبين قلوب السامعين، وهنا وبوضوح أخذ النجاشي القرار وقال:
"إن هذا والذي جاء به موسى (وفي رواية: عيسى) ليخرج من مشكاة واحدة". وإن هذا ليعد إقرارًا منه بصدق الرسالة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصِدق جعفر ومن معه. ثم التفت إلى عمرو وعبد الله بن أبي ربيعة وقال لهما: "انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبدًا".
وبهذا يكون الوفد الإسلامي قد نجح أعظم نجاح، ولم ينجح في إقناع عقل النجاشي وأساقفته فقط، بل تعدى ذلك حتى وصل إلى قلوبهم، وكانت هذه الجولة بكاملها في صفِّ المؤمنين، وهُزم سفيرا قريش هزيمة منكرة، وذلك في أول تجربة لقريش مع المؤمنين على أرض محايدة.
الباطل لا يمل
بعد هذه الهزيمة المنكرة لم تنته المعركة بعد، وكما ذكرنا فإن الحرب بين الحق والباطل حرب أبدية، وما كان من أمر فإن عمرو بن العاص لم يستسلم، وقد قرر استئناف الهجوم من جديد؛ وذلك في محاولة منه لسحب البساط من تحت أقدام الوفد الإسلامي، أو على أقل تقدير يحفظ ماء وجهه.
في أول الأمر كان يريد من ملك الحبشة أن يعيدهم إلى مكة، إلا أنه الآن وبعد الهزيمة المُرَّة والضربة القاصمة له كداهية العرب في ذلك الوقت ممن هو في مثل سن أبنائه (عمرو بن العاص كان يبلغ من العمر خمسًا وأربعين سنة، وكان جعفر يبلغ من العمر سبعًا وعشرين سنة)، فكر في جولة انتقامية شرسة تدفع النجاشي إلى قتل المسلمين، ولم يكن هذا الإقدام من المهام التي كان عليه القيام بها من قِبل قريش، ولكن الضربة التي تلقاها جعلته يتصرف بهذه الطريقة المنفردة.
قال عمرو بن العاص لعبد الله بن أبي ربيعة، وقد تمكّن الشر منه: "والله لأنبِّئَنه (النجاشي) غدًا عيبهم عنده، ثم أستأصل به خضراءهم".
وهنا يريد عمرو بن العاص أن يدفع النجاشي إلى قتلهم لا أن يردهم إلى مكة، وهذه مرحلة أبعد من الشر، وعمرو هذا هو الذي تحول لما أسلم بعد ذلك إلى قائد مسلم محنك، يحافظ على كل نقطة من دماء المسلمين، ويصل بالإسلام إلى بقاع كثيرة من بقاع الأرض، فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
وقد أرعبت هذه اللهجة من قبل عمرو بن العاص عبد الله بن أبي ربيعة رفيقه في السفارة، وقد ردَّ عليه متخوفًا وملطفًا: "لا تفعلْ؛ فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا".
لكن عمرو بن العاص وقد جُرح جرحًا كبيرًا أصر على رأيه، وما صرح به لعبد الله بن أبي ربيعة، وقال: "والله لأخبرنه (النجاشي) أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبدٌ".
وإن مثل هذا الخبر ليعد أمرًا عظيمًا في الحبشة، فقد كان أهل الحبشة يتبعون كنيسة الإسكندرية، وكانوا يعتقدون أن المسيح عليه السلام هو إله تجسد في جسد بشر - تعالى الله عما يصفون - وهو وإن دل على شيء فإنما يعكس دهاء عمرو بن العاص، ومدى اطلاعه؛ إذ كان يعلم رأي المسلمين في عيسى عليه السلام ويعلم رأي أهل الحبشة أيضًا فيه.
وهنا تكمن الخطورة؛ فإن عمرو بن العاص سيخبر النجاشي أن هؤلاء المسلمين يطعنون مباشرة في إلههم. وبالفعل مضى في تنفيذ خطته، فذهب من الغد إلى النجاشي وقال له: "أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيمًا، فأرسِل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه".
لا يستطيع النجاشي أن يتجاهل مثل هذا الأمر، فقد يكون صحيحًا. ومن ناحية أخرى فالأساقفة وكبار رجال الدولة لن يعذروا النجاشي إذا أظهر تعاطفًا مع موقف المسلمين دون تمحيص، ومن ثَمَّ فقد أرسل النجاشي إلى المسلمين يسألهم عن قولهم في عيسى بن مريم عليه السلام.
تقول السيدة أم سلمة - رضي الله عنها - في وصف حال المسلمين هناك في تلك اللحظة: "ولم ينزل بنا مثله".
وهي حقًّا مشكلة خطيرة يتعرض لها الوفد الإسلامي وقد تعصف به، فإن رأيه (الوفد الإسلامي) في عيسى بن مريم عليه السلام يتعارض كلية مع رأي أهل الحبشة فيه، وهم (المهاجرون) ضعفاء زائرون لاجئون، وليس هناك مكان آخر في انتظارهم.
ما كان من المسلمين إلا أن عقدوا مجلسًا سريعًا للشورى، وماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ تشاوروا ثم قالوا: "نقول والله فيه ما قال الله، وما جاء به نبينا، كائنًا في ذلك ما هو كائن".
في عُرف السياسيين كان رد فعل المسلمين عجيبًا، ويعدّ في نظرهم انتحارًا سياسيًّا، ولكن هناك فرقًا كبيرًا بين السياسي الداعية، وبين السياسي الذي ليس له مرجعية من الشرع، فالمسلم السياسي الداعية له رسالة واضحة، وهي أن يصل بدعوته نقية إلى الناس، والسياسي الذي ليس له مرجعية من الشرع لا تهمه الوسائل، بل إنه يريد أن يصل إلى النتيجة ولو على حساب الشرع، ولو على حساب الأخلاق، ولو على حساب الفضيلة، فالغاية عندهم تبرر الوسيلة.
كانت الموازنة سهلة بالنسبة للمسلمين، فالرؤية عندهم واضحة، ولا شيء يقدم على العقيدة، ولا شيء يقدم على الحق والصدق، ولا شيء يقدم على الدعوة الصحيحة، ولم يرد المسلمون أن يتسلقوا على وسائل خادعة أو طرق ملتوية أيًّا كانت النتائج.
وبهذه العقيدة دخل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه على النجاشي ومن معه من الأساقفة، وبصورة مباشرة سأله النجاشي:
"ما تقولون في عيسى بن مريم؟"
وفي ردٍّ موجز وملخص لعقيدة المسلمين في شأن عيسى بن مريم عليه السلام، رد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قائلاً:
"نقول فيه الذي جاء به نبينا نقول: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول (العذراء هي البكر، والبتول هي المرأة التي لا شهوة لها في الرجال). ومع كونه ردًّا يرفع كثيرًا من عظم شأن وشرف عيسى بن مريم عليه السلام إلا أنه لا يكاد يُخرج عيسى عليه السلام عن كونه عبدًا لله عز وجل ورسولاً من الرسل الذين أرسلهم الله إلى الناس، فقد وصف جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - عيسى عليه السلام أولاً أنه عبدٌ لله، ثم أثبت بعدها نبوته؛ وذلك حتى لا يلتبس على الأفهام اعتقاد أنه إله لأنه وُلد بغير أب أو أنه يُحيي الموتى، فقال جعفر في ترتيب جيد: هو عبد الله ورسوله، وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
ولم ينس أيضًا أن يثني على أمه السيدة مريم، ويوضح أن عقيدة المسلمين فيها مخالفة لعقيدة اليهود الذين يفترون عليها الافتراءات، ويكيلون إليها الاتهامات البشعة، فلم ينافق جعفر رضي الله عنه ولم يداهن، وقد ذكر الحق مجردًا، وعرضه بأسلوب لطيف لا إفراط فيه ولا تفريط، لكن الجميع يعلم أن هذا الطرح الذي طرحه جعفر رضي الله عنه ليس مقبولاً في بلاد الحبشة، تلك التي تعتقد في ألوهية المسيح عليه السلام.
تُرى ماذا كان ردّ فعلهم؟!
في موقف مهيب فاجأنا النجاشي وفاجأ فيه أهل الحبشة، بل وفاجأ عمرو بن العاص وصاحبه، بل ولعله أيضًا فاجأ جعفر نفسه، حين ضرب الأرض بيده، وأخذ منها عودًا (عود رفيع وصغير من النبات يكاد لا يرى) ثم قال:
"ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود".
أي أن النجاشي رأى أن الفارق بين كلام جعفر بن أبي طالب في وصف حقيقة المسيح، وبين وصف المسيح نفسه لحقيقته هو فارق ضئيل جدًّا، يكاد لا يذكر، أو يكاد لا يرى، وهذا أيضًا يعني أن النجاشي يعترف بعبودية المسيح عليه السلام ونبوته، وبالطبع لم يلق مثل هذا الكلام قبولاً لدى البطارقة والأساقفة وكبار رجال الدولة، فكان أن تنافرت البطارقة (أي أصدروا أصواتًا عالية تنمُّ عن الغضب والنفور من إسلام النجاشي)، وكان أن صاح النجاشي فيهم وفي حزم قائلاً: وإن نخرتم والله (يعني هذه هي الحقيقة المجردة برغم اعتراضكم)، ثم قام على الفور بإصدار ثلاثة قرارات غاية في الأهمية.
قرارات النجاشي القرار الأول:
استضافة المسلمين بالحبشة في أعلى صورة من صور تكريم الوفود، وهو قرار خطير لأنه - وكما هو واضح - ليس على هوى كبار الأساقفة، وهذا قد يؤدي إلى فتنة داخلية في الحبشة، وإلى قلاقل قد تزعزع مُلْكَ النجاشي نفسه، وقد حدث هذا بالفعل، وقامت عليه ثورة نتيجة هذا القرار، لكن النجاشي - رحمه الله - كان من الشجاعة والعدل بحيث إنه أصدر هذا القرار دون اعتبار لعواقبه الوخيمة على ملكه.
القرار الثاني:
قطع العلاقات الدبلوماسية مع مكة، فالبلاد التي تؤذي المؤمنين لا يجب أن يعقد معها الصالحون علاقات، والنجاشي رجل صالح، ومكة بلد تؤذي المؤمنين، فلا معنى إذن لإبقاء العلاقة قائمة بين البلدين، وقد عبر النجاشي عن ذلك بوضوح حيث قال: "ردوا عليهما - على عمرو وصاحبه - هداياهما؛ فلا حاجة لنا به".
وهكذا أغلق النجاشي باب المفاوضات كُلِّيَّة مع المشركين من أهل مكة، حتى إن أم سلمة رضي الله عنها نفسها تصف هذا الموقف فتقول: فخرجا (عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة) من عنده مقبوحين مردودًا عليهما ما جاءا به.
القرار الثالث:
وهو أخطر من القراريْن السابقيْن، وكان قرارًا سريًّا، لم يجهر به النجاشي لأحد، وهو قرار الإسلام، أخطر قرار في حياة إنسان.
لقد أيقن النجاشي يقينًا دفعه إلى أخذ قرار شجاع بترك النصرانية والتحول عنها إلى الإسلام، تحول عنها وهو على رأس دولة نصرانية لا زالت متمسكة بنصرانيتها، لكنه كان رجلاً عادلاً، وعدله يمنعه من أن يضيع حق الله في أن يعبد ولا يشرك به، وعدله يمنعه من أن يضيع حق المؤمنين في أن يدافع عنهم، وعدله يمنعه من أن يظلم نفسه ويضيع حقها في أن تؤمن بالله وتهتدي إلى الصراط المستقيم، لكن النجاشي لم يعلن إسلامه وآثر أن يظل محتفظًا بإيمانه في صدره، مظهرًا أمام الناس ديانته القديمة، النصرانية.
ولكن لماذا هذا التخفي وهو في هذه المكانة؟! هل جزع النجاشي أو خاف على ملكه أو على نفسه؟! ولماذا أعلن جعفر بن أبي طالب أمر الدعوة دون مواربة ولا مداهنة، بينما أخفى النجاشي أمر إيمانه؟!
وحيال هذا الوضع، فإن الموقفين مختلفان، فقد كان لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وظيفة دعوية، وللنجاشي وظيفة أخرى مختلفة عنه، وكان من وظيفة جعفر بن أبي طالب كرئيس للوفد الإسلامي أن يعرّف الإسلام كما هو؛ حيث كل كلمة من كلماته ستحسب على الإسلام، فلم يكن هناك مجال للتورية أو الإخفاء، حتى وإن فقد جعفر حياته؛ فالموازنة كانت محسوبة، أما النجاشي فلم يكن محسوبًا بعد على الإسلام والمسلمين، فكان الأمر هنا يقاس من وجهة نظر أخرى، هل الأفضل للإسلام والمسلمين أن يظهر النجاشي إسلامه أو أن يخفي إسلامه؟!
وكانت الإجابة أنه لو أظهر النجاشي إسلامه لاقتلعه الشعب النصراني من مكانه، وليست هذه هي المعضلة، إنما المعضلة ماذا يحدث لو تم ذلك؟ والإجابة أيضًا - ولا شك - كان سينتهي دور المكان الآمن الذي يحتفظ بكوكبة المسلمين إلى حين قيام دولة لهم في مكان آخر، أما إن كتم النجاشي إيمانه فإنه سيحتفظ بمكانه غالبًا، وفي هذا ما فيه من توفير أقصى حماية للمؤمنين هناك.
إذن كانت الوظيفة الدعوية لجعفر رضي الله عنه تقتضي أن يعلن إسلامه بوضوح، في حين كانت تقتضي الوظيفة الدعوية للنجاشي أن يكتم إسلامه بحذر، وكل ميسر لما خلق له.
وما كان من أمر فقد عاش المسلمون فترة طويلة في رعاية النجاشي رحمه الله، وذلك منذ العام الخامس من البعثة منذ بداية الهجرة الأولى إلى الحبشة، وحتى العام السابع من الهجرة النبوية، أي قرابة خمس عشرة سنة، ما قصر فيها النجاشي في حقهم مرة، وقد عبرت عن ذلك أم سلمة رضي الله عنها فقالت: "وأقمنا عند النجاشي بخير دارٍ مع خير جار".
إسلام أسد الله حمزة
في أثناء هجرة الحبشة أو بتعبير أدق: بين الهجرتين الأولى والثانية إلى الحبشة، كان قد حدث في مكة أمر جلل، كان بمنزلة حجر زاوية تَغيّر بعده مسار الدعوة تمامًا، واختلفت بسببه إستراتيجية المؤمنين في جهادهم ضد أهل الباطل في مكة المكرمة، زادها الله تكريمًا وتعظيمًا وتشريفًا.
هذا الحدث كان إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعده بثلاثة أيام، حدث ضخم، كان له رعد وبرق، وصدى مدوٍّ، ووقع مجلجل، فقد أسلما - رضي الله عنهما - في أواخر السنة السادسة من البعثة، وفي شهر ذي الحجة على الأرجح، وكانت قصة إسلامهما غاية في العجب، تظهر فيها بوضوح معاني الآية الكريمة: [إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ] {القصص: 56} .
لقد أسلم كلا البطلين في أحوال لا يتوقع أحد من المسلمين أن يدخل الإيمان في قلب أيٍّ منهما.
أسلم أولاً حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه القرشي الهاشمي الشريف، وكان فارس قريش، وكان من أكثر الناس عزة ومنعة، وأقواهم بأسًا وشكيمة.
البداية.. أبو جهل يتطاول على رسول الله
كعادته خرج حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصيد، وفي مكة وفي ذات هذا اليوم مر أبو جهل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند الصفا وحيدًا، فما كان من أبي جهل إلا أن تطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسانه وسبه سبًّا مقذعًا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم صامت لا يجيبه أو يرد عليه سبابه [وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا] {الفرقان: 63}، لكن أبا جهل لم يزده حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اغترارًا وجهلاً، فما كان منه إلا أن حمل حجرًا وقذف به رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم الشريفة، فشجه حتى نزف منه الدم - بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم - بعدها انصرف أبو جهل لعنه الله إلى نادي قريش عند الكعبة، مفاخرًا يحكي ما فعل، وما تم بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مكر الله وعينه التي لا تنام
كان لعبد الله بن جدعان أَمَة (وكانا كافريْن)، وكانت تلك الأمة قد رأت وسمعت ذلك الذي حدث بين رسول الله صلى الله عليه سلم وبين أبي جهل لعنه الله، وبعد انتهاء الحدث جاء حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صيده، وبترتيب إلهي وقفت الجارية تقص ما حدث لحمزة، الجارية كافرة، ومولاها مثلها أيضًا، والذي تحكي له حمزة - أيضًا - كافر، لكن [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] {المدَّثر: 31}. قالت الجارية:
"يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفًا من أبي الحكم بن هشام؟ وجده ها هنا جالسًا فآذاه وسبه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه محمد لم يكلمه".
كان حمزة هو الوحيد الذي يدافع عنه من بين أعمامه، لكن أين بقية الأعمام؟ أين أبو لهب؟ إنه من أشد المحاربين له، لا أحد منهم يتذكر أخاه عبد الله والد محمد صلى الله عليه وسلم، فهل إذا كان حيًّا كان سيحدث مثل هذا الموقف؟! وأين بنو هاشم وبنو عبد مناف؟ وهل يصل الموقف لأن يَضرب أبو جهل أشرف شرفاء بني هاشم وأشرفهم على الإطلاق؟! أوَيصل الوضع إلى هذا الحد ونحن نشاهده بأعيننا؟!
الظلم الشديد الذي تفاقم ووصل إلى هذه الدرجة كان قد حرك هذه العواطف وتلك المشاعر والأفكار في قلب حمزة وعقله، مشاعر الحب لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولأبيه عبد الله الذي مات وترك محمدًا، وأيضًا مشاعر القبلية الهاشمية الشريفة، وكذلك مشاعر الغيظ والغضب من زعيم بني مخزوم، وأيضًا مشاعر النخوة تجاه نصرة المظلوم.
بعد سماع كلام الجارية تلك لم يجد حمزة نفسه إلا متجهًا نحو فعل غريب، ومدفوعًا وبقوة عجيبة تجاه عمل لم يفكر ولم يخطر ببال أحد أبدًا أن يقدم عليه، بل لم يفكر هو نفسه في أن يفعله، لقد انطلق حمزة - وهو الذي ما زال على دين قومه - إلى أبي جهل، حيث يجلس بين أصحابه وأقرانه وأفراد قبيلته في البيت الحرام، وقد نظر إليه ثم أقبل نحوه لا يقوى أحد على الوقوف أمامه، وأمامه تمامًا كانت نهاية خطواته، ثم ودون أدنى ارتياب أو تفكير رفع قوسه وقد هوى به على رأس أبي جهل في ضربة شديدة مؤلمة، شجت على أثرها رأسه وأسالت الدماء منها، لقد كان قصاصًا عادلاً، ضربة بضربة، ودماء بدماء، لكن فوق ذلك فإن الإهانة كانت غاية في الشدة لأبي جهل؛ حيث كانت هذه الضربة أمام أفراد قبيلته وعشيرته، بينما كان الذي حدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيدًا عن أعين الناس، لقد كان مثل هذا الرد في عرف الناس كافيًا لأن يُشفي الغليل ويريح الصدر ويسكن القلب، لكن حمزة ما زال ثائرًا، لم يُشف غليله بعدُ، ولم يُرح صدره ولم يسكن قلبه ولا سكنت جوارحه، أراد حمزة أن يكيد لأبي جهل بكل ما يستطيع، أراد أن يلقي في قلبه حسرة تدغدغ جوانبه وتشل أركانه، فكر حمزة، ما أشد ما يغيظ أبا جهل؟ وفي نفسه علم أنه الدين الجديد، إنه الإسلام، وعلى الفور ودون سابق تفكير أو تَرَوٍّ قال حمزة:
"أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول؟! فرُد عليَّ ذلك إن استطعت".
انطلقت هذه العبارة من فم حمزة فوقعت كالقذيفة على قلب أبي جهل، لم يستطع بعدها أن يحرك ساكنًا، ألهته عن التفكير في الانتقام، وقد تضاءل حجمه حتى كاد أن يختفي وهو كبير الكافرين، حينها قام رجال من بني مخزوم يريدون أن ينتصروا لأبي جهل، لكنه خيفة منعهم ذلك، بل وهدأ ثائرتهم وقال: "دعوا أبا عمارة؛ فإني والله قد سببت ابن أخيه سبًّا قبيحًا".
لكن، ما الذي حدث من حمزة؟! أبهذه السهولة يدخل في دين الإسلام؟! أبهذه السهولة يقول وفي لحظة واحدة الكلمة التي لطالما رفض أن يقولها سنوات وسنوات؟!
سنوات ست كان يسمع حمزة عن الإسلام، سنوات ست لم تنقل حمزة من حال الكفر إلى حال الإيمان، بينما نقله هذا الحادث غير المقصود في عرف الناس، لقد دخل حمزة دين الإسلام رغمًا عن إرادته، لم يتروَّ في التفكير كعادته، خرجت الكلمة من فمه فما عرف كيف يستردها.
إسلام حمزة وسنن الله
يظن البعض أن حمزة قد أسلم مصادفة، لكن الحقيقة أن إسلامه ليس بالمصادفة، إنما هي سنة من سنن الله عز وجل، فالظلم الشديد إذا تفاقم أمره وطال ليله أعقبه نصر من الله عز وجل، ولا شك أن إيمان حمزة بن عبد المطلب كان نصرًا للدعوة، وإذا لم يكن هذا الظلم الذي وقع شديدًا ما لفت نظر حمزة، وما استطاع أن يحرك أشياء كثيرة جدًّا ما تحركت منذ سنوات ست، فهو تدبير رب العالمين، فكما يخلق من بين الفرث والدم لبنًا خالصًا سائغًا، يخلق من وسط الظلم عدلاً ونورًا، ومن وسط الاضطهاد والقهر والبطش نصرًا وتمكينًا، ولو كان أبو جهل يعلم أن مثل هذا سيحدث ما فكر ولو مرة واحدة في سب أو ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه تدبير رب العالمين [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] {الأنفال: 30}.
فهي رسالة إلى كل الدعاة: لا تحبطوا من الظلم الشديد، فلعله الظلم الذي يسبق نصرًا عظيمًا للدعوة، ولعلها أحلك لحظات الليل سوادًا التي يأتي بعدها ضياء الفجر، فحين يتفاقم الظلم ما يلبث أن يولد النصر للإسلام والمسلمين.
صدق النفس وتحقيق الإيمان
بعد كلمته الكيدية السابقة لأبي جهل، وكرجل صادق مع نفسه ومع مجتمعه، لا يستطيع أن يرجع في كلمته، وفي الوقت ذاته لا يستطيع أن يدخل في دعوة لا يؤمن بها حقًّا، عاد حمزة رضي الله عنه إلى بيته وهو في صراع حميم مع نفسه، ماذا أفعل؟ ولمن ألجأ؟!
ولأن فطرته سوية وسليمة لجأ إلى الله عز وجل، فقد كان العرب في جاهليتهم يؤمنون بالله، وأنه خالق ورازق وقوي وقادر، يؤمنون بذلك كله لكنهم كانوا لا يحكّمونه في أمورهم، ويشركون به بعبادتهم الأصنام يتقربون بها إليه - سبحانه وتعالى - زلفى، لجأ حمزة إلى الله عز وجل بما يشبه صلاة الاستخارة قائلاً: "اللهم ما صنعتُ إن كان خيرًا فاجعل تصديقه في قلبي، وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجًا".
ولأن الله عز وجل يريد به خيرًا هداه لأن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خير طبيب ليعرض عليه أمره وما أهمه، وعنده صلى الله عليه وسلم قال حمزة: "يابن أخي، إني قد وقعت في أمر ولا أعرف المخرج منه، وإقامة مثلي على ما لا أدري ما هو، أرشد أم هو غيٌّ شديد؟ فحدثني حديثًا؛ فقد اشتهيت يابن أخي أن تحدثني".
وهنا أقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثه بما كان يحدثه به من قبل، فذكّره صلى الله عليه وسلم ما كان يذكّره إياه، ووعظه ما كان يعظه به، وخوفه ما كان منه يخوفه، وبشره ما كان به يبشره، اللغة هي اللغة، والحديث هو الحديث، لكن الوعاء الذي يستقبل الفيض قد اختلف وتغير، وإنها للحظة هداية يختارها الله عز وجل بحكمة بالغة. سمع حمزة الكلمات التي طالما كان يسمعها كثيرًا، لكن هنا انبسطت أساريره، وانشرح صدره، وآمن من ساعته بصدق، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبيقين صادق من قلبه:
"أشهد أنك الصادق، فأظهر يابن أخي دينك، فوالله ما أحب أن لي ما أظلته السماء وأني على ديني الأول".
وسبحان الله! هكذا وفي لحظة واحدة أصبحت الدنيا كل الدنيا لا تساوي شيئًا في مقابل دينه الجديد الإسلام، ومن بعدها أصبح حمزة رضي الله عنه أسد الله.
انتقل بعدها حمزة رضي الله عنه ومن فوره من رجل مغمور في صحراء الجزيرة العربية يعيش فقط لحياته وملذاته، يخرج للصيد ثم يعود للطعام والنوم، إلى رجل قد أصبح كل همه أن يُعبّد الناس لرب العالمين، وأن يدافع عن دين الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يُظهر الإسلام ويحمي المستضعفين، ولننظر كيف ترقّى في القدر من كونه سيدًا لمجموعة من الرجال في قرية لا تكاد ترى على الخارطة في فترة من عمر الدنيا لم تتجاوز سنوات معدودات، إلى كونه سيدًا للشهداء في الجنة، فقد أصبح حمزة - رضي الله عنه - سيدًا لكل الشهداء على مر التاريخ وإلى يوم القيامة، وقد خلد ذكره في الدنيا وخلد ذكره في الآخرة، وبحق لو نريد أن نعرف قيمة الإسلام، فلننظر إلى حمزة قبل الإسلام، ولننظر إليه بعد الإسلام.
فهذا هو الإسلام الذي صنع حمزة، وصنع أيضًا أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا وغيرهم على مر التاريخ. إذا كنا حقًّا نحتاج إلى رجال مثل حمزة فيجب علينا أن نأخذ الإسلام كما أخذه، ويجب أن نعيش الإسلام كما عاشه حمزة - رضي الله عنه - وعاشه كذلك كل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.