اسامه جاد مشرف سوبر
عدد الرسائل : 3356 العمر : 53 العمل/الترفيه : معلم اول احياء وعلوم بيئه وجيولوجيا نقاط : 13745 تاريخ التسجيل : 14/02/2009
| موضوع: قصة الاسلام الجزء9 الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 7:51 pm | |
| 10-بيعة العقبة الأولى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجلس بني شيبان الذين فاتهم الإيمان في هذا المجلس، وانتقل مباشرة إلى مجلس مجموعة صغيرة قليلة من الرجال سمعهم يتكلمون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يترك كبيرًا ولا صغيرًا، ولا كثيرًا ولا قليلاً إلا دعاه للإسلام.
ذهب إليهم صلى الله عليه وسلم بنفس الحماسة والنشاط، وجلس إليهم وكان عددهم ستة، فقال لهم: "مَنْ أَنْتُمْ؟" قالوا: نفر من الخزرج.
والخزرج هي إحدى قبيلتين كبيرتين قبيلة الأوس وقبيلة الخزرج، تسكنان يثرب، ويثرب مدينة في شمال مكة على بعد حوالي خمسمائة كيلو متر أو أقل قليلاً، فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤالاً مهمًّا جدًّا.
قال لهم صلى الله عليه وسلم: "أَمِنْ مَوَالِي الْيَهُودِ؟" يعني حلفاء اليهود.
قالوا: نعم.
وجاء الأنصار
رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يطَّلع على أحوال زمانه، ويدرس بعناية موازين القوى في العالم في ذلك الوقت، فكما كان يعرف وضع بني شيبان ومملكة فارس، وخطورة أن يتعاهد مع بني شيبان وعين لهم معه، وعينهم الأخرى مع كسرى، فهو يعلم أن اليهود يسكنون يثرب وأنهم قوة سيكون لها أثر على الدعوة، وسيكون لها أيضًا أثر على من يسكن بجوارهم من الأوس والخزرج، ولا بد أن يؤخذ في الاعتبار عند المباحثات مع الخزرج، وكون الخزرج يسكنون بجوار اليهود ويحالفونهم فهذا أمر له إيجابياته وله أيضًا سلبياته، فمن إيجابياته أن اليهود قوم نزل فيهم أنبياء كُثُر، ولا بد أن الحديث عن الأنبياء أمر مألوف في يثرب، ولن يستغرب الخزرج الحديث عن أن الله عز وجل أرسل رجالاً إلى البشر، كما أن اليهود يعلمون أن هذا الزمان قد أظل نبيًّا ولعلهم يتوقعون ظهوره بين لحظة وأخرى، ولعلهم في حديثهم مع الخزرج أشاروا إلى ذلك. إذن فالخلفية الثقافية للخزرج تعطي إحساسًا أنهم قد يتقبلون فكرة الرسالة والرسول، ومن ناحية أخرى فسكن الخزرج بجوار اليهود ومحالفتهم لهم له آثاره السلبية، فاليهود كما جاء في كتاب الله عز وجل أهل غدر وخيانة، وقد سطر القرآن المكي أفاعيلهم الشنيعة مع أنبيائهم السابقين، وذكر القرآن المكي بالتفصيل ما فعلوه مع موسى عليه السلام، وما فعلوه مع عيسى عليه السلام وما فعلوه مع غيرهم من تكذيب وإهانة وإنكار واستخفاف وصل إلى حد القتل مع بعضهم ومحاولة القتل مع عيسى عليه السلام، هؤلاء هم اليهود، فماذا سيفعلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ سؤال ستجيب عليه الأيام القادمة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم الآن يجلس مع بعض الخزرج، ولا بد أن يضع كل هذه الاعتبارات في ذهنه عند الحديث إليهم.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أَمِنْ مَوَالِي الْيَهُودِ؟"
قالوا: نعم.
قال: "أَفَلا تَجْلِسُونَ أُكَلِّمُكُمْ؟"
قالوا: بلى.
فجلس معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام وقرأ عليهم القرآن، فبلغ القرآن منهم كل مبلغ، وعلموا أنه الحق، وأن هذا رسول، لكن كم من البشر قبل ذلك عرفوا هذه الحقائق ولم يؤمنوا، كم من البشر في مكة وغيرها علموا أن هذا القرآن ليس في مقدور البشر، وأن هذا الرجل صادق لا يكذب ومع ذلك لم يؤمنوا، أما هؤلاء الستة من الخزرج فقد آمنوا من ساعتهم.
كيف آمنوا؟ وكيف قبلوا في مجلس واحد أن يغيروا من الدين الذي ولدوا وهم يعرفونه إلى دين جديد لم يسمعوا عنه إلا من دقائق؟! وكيف أخذوا في لحظة قرارًا قد يضعهم في ناحية والعرب جميعًا، بل والعالم في ناحية أخرى؟
هذا تدبير رب العالمين، هذا تدبير اللطيف الخبير.
لقد جهز الله عز وجل هؤلاء النفر ليؤمنوا، جهزهم الله عز وجل في خفاء فهو اللطيف سبحانه، جهزهم بطريقة لا يحسب لها بشر حسابًا، ولكنه تقدير العزيز العليم.
انظر وتأمل:
أولاً: خلفية العلاقة مع اليهود: اليهود خلق عجيب، كانوا يعلمون أنه قد اقترب ظهور نبي آخر في الزمان، وكانوا يتوقعون أو يرغبون أن يكون منهم وفيهم، فمعظم الأنبياء السابقين كانوا منهم وفيهم، وكانت لهم طبيعة جافة قاسية منكرة، فكان إذا حدث بينهم وبين الأوس والخزرج خلاف قالوا لهم أنه سيظهر في هذا الزمان نبي، وسوف نتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم. سبحان الله! بدلاً من أن يقولوا سيظهر نبي نتبعه وندعوكم إلى الإيمان به واتباع سبيل الأنبياء، يقولون أنه سيتبعونه ليقتلون به الأوس والخزرج، فنتيجة هذه الأخلاق الفاسدة حدث أمران جليلان:
الأمر الأول:
أنه قد وقر في قلوب الأوس والخزرج بغض شديد لليهود، ولم يكن التحالف بينهم إلا للمصالح المادية فقط، ومن ثَمَّ فإن انفصال الأوس والخزرج عن اليهود كان أمرًا ميسورًا نسبيًّا.
الأمر الثاني:
أن الأوس والخزرج كانوا يقتنعون بقرب ظهور النبي صلى الله عليه وسلم أو على الأقل يعتقدونه أمرًا محتملاً ممكنًا، وهم في الوقت ذاته يخافون منه، ومن اتحاد اليهود معه ضدهم؛ ولذلك عندما علموا أن هذا هو النبي المنتظر قالوا لا نضيع الفرصة، بل نسرع بالإيمان به، فلو عدنا إلى يثرب نفكر ونفكر، ونتروَّى ونتروى، قد يعلم اليهود بأمر هذا الرسول فيسبقوننا إليه.
ظهر هذا واضحًا في كلامهم أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلمون والله إنه للنبي الذي تدعوكم به اليهود، فلا تسبقنكم إليه.
فانظر إلى تدبير رب العالمين وتأمل، لولا غلظة اليهود ما أخذ الخزرج قرارهم بهذه السرعة، ولكن الله عز وجل يفعل ما يشاء.
ثانيًا: الخلفية الاجتماعية لمدينة يثرب في ذلك الوقت: كانت يثرب تضطرم نارًا في حرب أهلية طاحنة بين الأوس والخزرج، حدث ذلك في يوم بُعاث المشهور، وفني خلق هائل من القبيلتين، وما زالت بقايا الحرب مستمرة، ولو استمر الحال على ما هو عليه لفنيت القبيلتان، ومن ثَمَّ فإن الخزرج الستة الذين جلس معهم الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا المجلس كانوا يفكرون في حل لهذه الأزمة الرهيبة التي تعصف بيثرب، فلما جلسوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخل الله عز وجل في تفكيرهم فكرة رائعة، أن هذا الرجل صلى الله عليه وسلم بما له من حلاوة منطق وحسن بيان وقرآن معجز ووحي صادق، يستطيع أن يجمع القبيلتين تحت لوائه، وبذلك يحفظ القبيلتين من الهلكة ويؤلف بينهما بعد الشقاق.
فكانت هذه الخلفية الاجتماعية المهلهلة سببًا في سعي هؤلاء النفر من الخزرج إلى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم للخروج من هذا المأزق، ظهر ذلك أيضًا بوضوح في كلامهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أعلنوا إيمانهم، فلقد قالوا له: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك.
فقهت ذلك السيدة عائشة فقهًا جيدًا، فقالت كما جاء في البخاري: كَانَ يَوْمَ بُعَاثَ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدِ افْتَرَقَ مَلَؤُهُمْ وَقُتِلَتْ سَرَوَاتُهُمْ (أي أشرافهم) وَجُرِّحُوا؛ فَقَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُخُولِهِمْ لِلإِسْلامِ.
ثالثًا: اختيار رباني:
الله عز وجل اختار مجموعة من الرجال العقلاء الحكماء أصحاب الأخلاق الرفيعة حتى يلاقوا الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا اللقاء المهم، فهذه فرصة للإيمان قد حدثت لكثير من الناس، لكن لم يرد الله عز وجل لهم الهداية لعيوب خطيرة في هؤلاء الناس من كبر وظلم وفاحشة وسلبية وأمراض كثيرة، أما هؤلاء الستة فلم يكونوا على هذه الشاكلة، بل كانوا من أفضل الناس طباعًا وأخلاقًا.
من هم هؤلاء الستة؟ إنهم:
1 - أسعد بن زرارة رضي الله عنه.
2 - جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
3 - عوف بن الحارث رضي الله عنه.
4 - رافع بن مالك رضي الله عنه.
5 - قطبة بن عامر رضي الله عنه.
6 - عقبة بن عامر رضي الله عنه.
والأخيران ليسا بأخوين نسبًا.
مميزات رهط الخزرج:
هؤلاء الستة تميزوا بأمور في غاية الأهمية، فوق ما تميزوا به من عقل وذكاء وحكمة.
أولاً: تميزوا بالقرار الحاسم غير المتردد، فاستطاعوا في لحظات أن يأخذوا أهم قرار في حياتهم على الإطلاق وهو الدخول في الإسلام واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا القرار الذي أعقبه سعادة الدنيا والآخرة.
ثانيًا: اتصافهم بأعلى الدرجات الإيجابية المتخيلة، فهؤلاء بعد أن اقتنعوا بهذا الدين وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكتفوا بإيمانهم، بل قالوا قولاً عجيبًا مع أنه لم يمضِ على إيمانهم إلا دقائق.
قالوا: فسنقدم على قومنا يا رسول الله، فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.
هكذا في بساطة أصبحوا دعاة إلى الله عز وجل، وأخذوا على عاتقهم تغيير الأوضاع كلية في يثرب، هكذا بعلمهم القليل وفقههم المحدود، قمة الإيجابية، وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي يقول: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً".
وانطلق المؤمنون الستة إلى يثرب يحملون الرسالة الجديدة، فكما يقول الرواة: لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد قام هؤلاء الدعاة الجدد بدور التعريف بهذه الدعوة العظيمة، نعم لم يؤمن من أهل يثرب الكثير، لكن الكل أصبح يعرف هذه الرسالة، بل ويجلّ هذه الرسالة، وعندما يأتي بعد ذلك مصعب بن عمير رضي الله عنه ليقوم بأمر الدعوة هناك سيجد أرضًا خصبة جدًّا لهذه الدعوة، لقد مهد له هؤلاء الستة، قليلون في عددهم ولكن ما أثقلهم في ميزان الله عز وجل، وما أبلغ أثرهم في تاريخ البشرية، وليتنا نستوعب درس السبق في هذا المقام.
ثالثًا: تميز هؤلاء النفر بأمر ثالث مهم وهو القلب الرقيق والعاطفة الجياشة، وهي صفات لا تميز هؤلاء فقط، بل تميز معظم أهل يثرب والذين أصبحوا بعد ذلك الأنصار، وقد يرجع هذا إلى جذورهم اليمنية، فإن أهل اليمن اشتهروا برقة القلب، وقد أكد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم الأشعريون من اليمن، قال كما جاء في البخاري: "أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، وَهُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً، وَأَلْيَنُ قُلُوبًا".
وهكذا فإن النظر المحلل بصورة سطحية لأحداث هذه الفترة قد يعتقد أن النصر بعيد، وأن الظروف صعبة لدرجة يستحيل فيها قيام أمة الإسلام إلا بعد قرون وقرون، ولكن سبحان الله في الوقت الذي تعثرت فيه المفاوضات مع القبائل الكبيرة القوية، أفلحت المفاوضات مع مجموعة صغيرة حملت على عاتقها هذه الدعوة، وسوف يمر عامان فقط أو أكثر قليلاً وسيصبح للمؤمنين دولة، هل تصدقون؟!
الوفد يعود إلى المدينة
عاد هؤلاء الستة إلى يثرب وكانوا على عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاموا بالدعوة قدر استطاعتهم، استطاعوا أن يدخلوا بعض أهل المدينة في الإسلام، ولكنهم عرفوا أهل المدينة جميعًا بأمر هذا الدين الجديد، فقد تناسوا أمور القبلية تمامًا وأتوا إلى الإسلام برجلين من الأوس هما: أبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة رضي الله عنهما، وهذا أيضًا يحسب لهذين الصحابيين الجليلين اللذين قبلا الدخول في هذا الدين الجديد على أيدي رجال كانت بينهم وبين الأوس حروب ودماء.
مر عام كامل والدعوة تأخذ وضعها في البلد الجديد يثرب، والوضع متجمد في مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم بدعوته مع الوفود الزائرة، واضطهاد المؤمنين في مكة ما زال على أشده.
بعد انقضاء هذا العام وفي موسم الحج جاء اثنا عشر رجلاً من أهل يثرب وقد تمكن الإيمان من قلوبهم منهم خمسة من الستة السابقين وسبعة من المسلمين الجدد، والتقوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة ودارت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مباحثات في غاية الأهمية، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها حريصًا على تأسيس النواة الأولى التي ستقوم على أكتافها دولة الإسلام، فالآن القرائن تشير إلى أن هذه المدينة الجديدة يثرب قد تصلح لاستقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ وذلك لإقامة دولة هناك، لكن ليس هذا على وجه اليقين فمعظم أهل المدينة لم يدخلوا في الإسلام بعد وإن كانوا قد عرفوه، وكذلك فإن المؤمنين من أهل يثرب ما زالوا في أول طريق إيمانهم، وعلمهم قليل واختياراتهم محدودة، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستوثق من قوة إيمانهم من ناحية، وأن يهتم بتعليمهم من ناحية أخرى، وأن يحرص على زيادة عددهم من ناحية ثالثة، فماذا فعل صلى الله عليه وسلم؟
بيعة العقبة الأولى
لقد عقد معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدًا في غاية الأهمية عرف في التاريخ باسم بيعة العقبة الأولى، فهذه بيعة أو عهد أخذه على المجموعة المكونة من اثني عشر رجلاً من الأنصار، وهو لم يأخذه على الستة الأوائل من عام سبق لأنهم كانوا حديثي العهد بفكرة الإيمان أصلاً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا التدرج دائمًا في كل أموره حتى في تكاليف الإيمان، فهو الآن يطلب منهم أمورًا لم يطلبها منهم من قبل وسيسكت عن أمور سيطلبها منهم فيما بعد عندما يرتفعون أكثر في سلم الإيمان وعندما توائم الظروف كما سنرى، تمت البيعة عند العقبة ولذلك عرفت باسم بيعة العقبة، وسميت الأولى لأنه ستحدث بيعة ثانية في نفس المكان بعد عام آخر.
كانت بنود هذه البيعة كما روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وكان من المشاركين في هذه البيعة الجليلة قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء (وعرفت بذلك لأنه لم يُفرض فيها حرب ولا جهاد) على أن لا نشرك بالله، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفَّيتم فلكم الجنة، وإن غَشِيتُمْ من ذلك شيئًا فأمركم إلى الله عز وجل، إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم.
ولنا تعليقات مهمة على بنود هذه البيعة العظيمة:
فهذه البيعة الجليلة قام فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع حجر الأساس لبناء الأمة الإسلامية.
لقد أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم جوامع الكلام، فهذه البيعة قليلة الكلمات تحوي دستورًا متكاملاً لبناء اللبنة الأساسية التي تقوم على أكتافها أمة صالحة، والله إننا نحتاج لمجلدات ولسنوات لدراسة هذه الكلمات القليلة السريعة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه البيعة.
أولاً: أول شيء ذكره صلى الله عليه وسلم هو القضية الأساسية المحورية في الإسلام، أن لا نشرك بالله، العقيدة الصحيحة، وعبادة الله وحده دون إشراك، والتلقي منه وحده دون غيره، وتقديمه على كل شيء. هذا هو البند الأول.
ثانيًا: البند الثاني والثالث والرابع والخامس في البيعة هي بنود ذكرت لأجل هدف واحد، وهو الارتفاع بأخلاق هذه الأمة إلى أعلى مستوى، لا تقوم الأمة على أكتاف من تهاونوا في خُلُق من الأخلاق، إن ضاعت الأخلاق ضاع كل شيء، ضاعت السياسة وضاع الاقتصاد وضاع الحكم وضاع القضاء وضاعت المعاملات وضاعت البلاد والعباد، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر الهدف من بعثته صلى الله عليه وسلم على إتمام مكارم الأخلاق، فقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ".
ثالثًا: أن هناك بندًا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار أن لا يعصوه في معروف، وهو في هذا البند يوضح أمرين لا تقوم الأمة بغيرهما، أما الأمر الأول: فهو طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن ربه وأوامره إما أن تكون قرآنًا وإما أن تكون سنة، وكلا الأمرين ملزم للأمة الإسلامية، واللبنة التي تقوم على أكتافها الأمة لا بد أن تحرص على اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة.
والأمر الثاني المهم في هذا البند هو أن الطاعة لا تكون إلا في معروف، وبديهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يأمر إلا بمعروف، وكان من الممكن أن يقول: ولا تعصوني فقط ويسكت، ولكنه في هذا المقام يضع أسس بناء الأمة الإسلامية، هذا العهد وهذه البيعة ليست خاصة بزمانهم فقط، إنما هي إعداد للأمة في كل أزمانها إلى يوم القيامة، والقائد الذي يقوم في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بد أن يطاع، ولكن لا يطاع إلا في معروف، والمعروف هو ما جاء من الله عز وجل ومن رسوله صلى الله عليه وسلم.
(لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وهي قاعدة أصيلة في بناء الأمة الإسلامية.
رابعًا: التعليق الرابع على البيعة يتعلق أيضًا بأمر محوري في بناء الأمة الإسلامية، ما الذي ينتظره الجيل الذي سيبني الأمة الإسلامية أو الذي سيعيد بناءها؟ ما الجزاء؟ ما الثمن؟ أهو المال؟ أهو الرئاسة؟ أهو وضع اجتماعي معين؟ أهو أمن وأمان؟ أهو راحة واستقرار؟
كلا، إن الجزاء في كلمة واحدة فقط، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَإِنْ وَفَّيْتُمْ فَلَكُمُ الْجَنَّةُ".
الجنة فقط هي الثمن، ولو وضع المسلم أي شيء إلى جوار الجنة ما أفلح، لا في بناء الأمة الإسلامية ولا في الآخرة.
الجنة فقط، أما كل الأثمان الأخرى من مال ورئاسة وأمن وراحة فقد تأتي وقد لا تأتي، فليست هي القضية، وليست هي منتهى أحلام المؤمنين.
[إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ] {التوبة: 111}. فقط الجنة.
وهنا يتضح الفارق الهائل بين مجموعة الأنصار التي بايعت هنا وبين قبائل بني شيبان وقبائل بني عامر وغيرها من القبائل التي اشترطت شروطًا معينة للإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمع كل التكاليف التي فرضت على الأنصار لم يكن هناك أي وعد بأي شيء إلا الجنة، وهنا يُربط المؤمن ربطًا وثيقًا بربه بدلاً من أن يُربط بدنياه، وهو درس محوري في بناء الأمة الإسلامية.
خامسًا: التعليق الخامس على هذه البيعة المباركة، هو أن الجهاد اختفى تمامًا من بنود البيعة، فالتربية المتدرجة من ناحية أمر في غاية الأهمية، هذه المجموعة ما زالت جديدة على الإسلام ولم يعش بين أظهرها من يزرع فيهم حياة الجهاد زرعًا أكيدًا، والجهاد أمر عظيم، وتضحية كبيرة، ولا يقدر عليه إلا من قطع شوطًا لا بأس به في طريق الإيمان، فهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَذِرْوَةُ سِنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى فالظروف في يثرب لا تسمح بجهاد وكذلك الظروف في مكة لا تسمح به، ما زالت الشوكة ضعيفة، وما زالت هناك فرصة كبيرة لإسلام أهل يثرب، وما زال هناك وقت لهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هناك، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه اللحظة لم يكن متأكدًا أن الهجرة ستكون إلى هذه البلد، فهذا لم يحدث إلا بعد بيعة العقبة الثانية، التي ستتم بعد عام من البيعة الأولى.
لهذه الأسباب لم يشر إلى موضع الجهاد في البيعة، وعرفت البيعة في التاريخ ببيعة النساء؛ لأن النساء لا يطلب منهن جهاد ولكن يطلب منهن كل ما طلب من الأنصار في هذه البيعة الأولى، وذلك كما جاء وصفه في آخر سورة التحريم.
وكان أيضًا من حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر أنه لم يذكر أن الجهاد غير مطلوب منهم في هذه الفترة، بل سكت عنه ولم يشر إليه سلبًا أو إيجابًا، فأولاً كان هذا الأمر معروفًا في دين الإسلام حتى هذه الفترة، وكان الجهاد ممنوعًا بأمر الله عز وجل [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ]{الحجر: 94}. ولم ينزل حكم جديد من الله ينسخ الحكم السابق. وثانيًا وهو أمر مهم جدًّا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو كتب في هذه البيعة أنه لا جهاد عليكم، فإنه في المستقبل عندما يفرض الجهاد - وهو سيفرض حتمًا في وقت من الأوقات - سيكون صعبًا على المسلمين المبايعين أن يتقبلوا حذف بند وإضافة بند آخر، وخاصة لو كان هذا البند بندًا صعبًا كالجهاد، أمر نفسي بحت، لو قال أن الجهاد غير مطلوب منكم، فقد رفع هذا الأمر من الحسبان وستكون مفاجأة إذا فرض عليهم، أما إذا لم يشر إليه فهم يتوقعونه، قد يكون غدًا أو بعد غد أو بعد عام أو بعد عشرة أعوام ولكن حتمًا سيجيء؛ لأن الحرب بين الحق والباطل سنة من سنن الله الكونية لا بد أن تحدث، وفوق ذلك فإن هناك أقوامًا في يثرب سيدخلون في هذا الدين، وحتمًا سيراجعون بنود هذه البيعة قبل الارتباط بالدين الإسلامي، وقد يدخلون الدين وهم مطمئنون لحذف بند الجهاد من تكاليفه، ولا يفقهون أن هذه مرحلة ستعقبها مراحل أخرى، ولذلك ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه النقطة دون إشارة مباشرة، وهذا من حكمته صلى الله عليه وسلم.
وهكذا تمت البيعة المباركة وعاد الأنصار الاثنا عشر إلى يثرب؛ ليستكملوا دعوتهم ونشاطهم هناك.
أول سفير في الإسلام
لقد أصبح واضحًا أن هذا المكان الجديد سيكون له شأن خاص، ومن المحتمل أن يكون دار الهجرة، وما أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار في هذه البيعة لم يأخذه على غيرهم، ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرر أن يقوم بعمل ما قام به من قبل ذلك في تاريخ الدعوة بمكة، وهو إرسال سفير من الصحابة المكيين إلى أرض يثرب مع هؤلاء الاثني عشر أنصاريًّا، حتى يمهد الأمر لقيام دولة إسلامية في هذا المكان، هذا السفير سيكون له مهام عظيمة، سيكون من مهامه أن يمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المكان، فما يريده الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل يثرب سيأتي لهم عن طريق هذا السفير، لكنه ليس سفيرًا سلبيًّا ينقل الرسائل فقط بل له مهام أخرى جليلة، عليه أن يكون صورة متحركة للإسلام قدوة للمسلمين وغير المسلمين، عليه أن يعلم المسلمين الإسلام، عليه أن يدعو إلى الإسلام أفرادًا جددًا، عليه أن يزيد من القاعدة الإسلامية في هذه البلد النائي حتى تصبح حمايتها معتمدة على أفرادها، رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يريد للمسلمين من أهل مكة إذا جاءوا إلى يثرب أن يعيشوا فيها كجالية أجنبية تعيش في بلد مضيف، لا يريد لهم وضعًا كوضع المهاجرين في الحبشة، المهاجرون في الحبشة، وإن كانوا قد أتيحت لهم حرية العبادة ونعمة الأمن، إلا أنهم شبه معزولين عن المجتمع النصراني الذي يسكن أرض الحبشة، يعيشون كأقلية محدودة تمكث في هذا المكان لفترة ما ثُمَّ سيكون الانصراف، أما الوضع الآن في يثرب فهو مختلف، الرسول صلى الله عليه وسلم يخطط لإقامة دولته، ولا بد للدولة أن تعتمد على أبنائها لحمايتها، ولا بد أن تكون الحمية في أهل يثرب كالحمية في قلوب المسلمين في مكة، عليه أن يُمهد البلد نفسيًّا لاستقبال المهاجرين من المدينة والحبشة ومن أي مكان، عليه دراسة أحوال يثرب العسكرية والأمنية والاقتصادية؛ لأنه من المحتمل أن تصير دار الهجرة، ومن هنا كان الدور الجليل الخطير للسفير الذي سيرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا المكان، فعليه مهمة التخطيط لإقامة دولة، وهي مهمة صعبة ولا شك، فممارسة الدعوة بين أناس تعرفهم وتعيش معهم وبينك وبينهم علاقات هو أمر مفهوم وميسور، لكن أن تدعو في مكان لا يعرفك فيه أحد، ولم تزره قبل ذلك في حياتك، ولا تعرف طباعه وتقاليده فهذا أمر عسير، بل إن هناك تباعدًا كبيرًا جدًّا بين أصول الأوس والخزرج وأصول قريش، فقريش من أولاد عدنان، والأوس والخزرج من أولاد قحطان، وكل هذا يصعب من مهمة الداعية.
وهذا السفير الذي سيرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه أيضًا أن يرتفع بالمؤمنين إلى أعلى درجات الإيمان، فلا يكفي فقط أن يقنع الناس بالارتباط بهذا الدين، فما أكثر المرتبطين بهذا الدين ولا يعملون له! بل ما أكثر المرتبطين بهذا الدين ويعملون ضده ويحاربونه ويكيدون له!! فمهمة السفير هذه ليست فقط في تكثير الأتباع، ولكن رفع مستواهم الإيماني والجهادي إلى أعلى درجة، فإن أعباء المستقبل ضخمة للغاية، ولن يحملها إلا أفذاذ الرجال، وهذا السفير الذي سيرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يكون له سند من إخوانه المسلمين القدامى ولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على فترات متباعدة، فالمسافة بين مكة والمدينة تقترب من خمسمائة كيلو متر، ولن تكون هناك فرصة للاستشارة في كل صغيرة وكبيرة؛ ولذلك فإن هذا السفير لا بد أن تكون عنده حصيلة علمية ضخمة تكفيه في المكان النائي، ولا بد أن يكون من الرجال المستقرين نفسيًّا الذين لا يُحبَطون بالمعاداة والتكذيب، ولا بد أن يكون من الرجال المخلصين جدًّا الذين لا يستقطبون إلى غيرهم بإغراء من إغراءات الدنيا مهما عظم، ولا بد أن يكون هادئًا سهلاً لبقًا في كلامه دبلوماسيًّا في حواره حتى يستوعب أهل يثرب ولا ينفرهم من الدعوة، ولا بد أن يكون متحمسًا لدعوته لا يكلّ ولا يملّ؛ لأن الوقت الذي يمر عليه هناك في يثرب وقت ثمين، ففي كل لحظة تمر يعاني المسلمون في مكة من آلام جديدة، وكذلك المسلمون في الحبشة يعانون ألم الغربة، وكلما أسرع هذا السفير في مهمته اقترب ميعاد النجاة من هذه الآلام.
مهمة عظيمة تحتاج لعظيم نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه فوجد أن معظم صحابته تنطبق عليهم صفات السفير المطلوب، فقد كان هذا الجيل الأول حقًّا جيلاً فريدًا، لكنه مع ذلك اختار من بينهم رجلاً واحدًا وجد أنه أنسب الناس لهذه المهمة الجليلة الخطرة، فمن اختار؟
لقد اختار الصحابي الجليل المؤمن التقي الورع مصعب بن عمير رضي الله عنه، ولماذا مصعب بن عمير رضي الله عنه بالذات؟
سبحان الله! لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيمًا لأبعد درجات الحكمة، عليمًا بالرجال إلى أبعد درجات العلم، فقيهًا في أمور الدعوة وأمور الدين وأمور الدنيا وأمور السياسة وأمور المعاملات إلى أبعد درجات الفقه.
بحثت في أسباب اختياره صلى الله عليه وسلم لمصعب بن عمير رضي الله عنه بالذات فوجدتها أسبابًا كثيرة ومهمة جدًّا، ولا شك أن هناك أسبابًا غيرها، فأنَّى لنا أن نحيط بحكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! اقرأ وتأمل:
أولاً: كان مصعب بن عمير رضي الله عنه من أعلم الصحابة، وكان يحفظ كل ما نزل من القرآن، ولم يشتهر عنه ذلك العلم لأنه مات مبكرًا، فقد مات رضي الله عنه في غزوة أحد سنة 3 هجرية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم حفظة القرآن في كثير من الأمور، في الصلاة وفي السفارة وفي الإمارة وفي الزواج، بل كان إذا مات رجلان في غزوة وأراد أن يدفنهما في قبر واحد قدم أكثرهما حفظًا للقرآن. والدعوة بالقرآن ليست كالدعوة بغيره من الكلام، شتان بين كلام الخالق وكلام المخلوق، شتان بين أن يذكر الداعية آية من القرآن بنصها كما نزلت، وبين أن يذكر معناها دون نصها، وخاصة في هذه البيئة الخبيرة بفنون اللغة وأصولها، والمدركة لإعجاز هذه الكلمات، مصعب بن عمير رضي الله عنه كان يحفظ كل ما نزل من القرآن، وقد أهّله ذلك لهذا المنصب الرفيع.
ثانيًا: كان مصعب بن عمير رضي الله عنه يتصف باللباقة والكياسة والهدوء والصبر وسعة الصدر والحلم، وكل هذه صفات محورية في الداعية الناجح. كثير من الدعاة يحملون علمًا غزيرًا وقرآنًا كثيرًا، لكنهم يفتقدون إلى الحكمة في توصيل هذا العلم، فظاظة الكلمات وغلظة النظرات تضع حاجزًا لا يكسر بين الداعية والمدعو، أما مصعب بن عمير رضي الله عنه فكان رقيقًا هادئًا متواضعًا ذكيًّا، ظهر كل ذلك من دعوته في يثرب كما سنرى، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرته بالرجال رأى كل ذلك قبل أن نراه.
ثالثًا: كان مصعب بن عمير رضي الله عنه من أشراف أهل مكة، كان من بني عبد الدار الذي يحملون مفتاح الكعبة ويتوارثونه كابرًا عن كابر، وليس معنى هذا أن الإسلام يفرق بين صاحب الأصل الشريف وبين غيره من الناس، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يراعي حالة أهل يثرب، ولا يريد أن يفتنهم، كيف يكون حالهم إذا ذهب إليهم رجل ضعيف بسيط، عبد أو حليف، قد يرفضون الاستماع إلى الدعوة أصلاً، ولكن مصعب بن عمير رضي الله عنه رجل يتشرف الشرفاء بمعرفته، وكان من أغنياء القوم قبل إسلامه، بل من أغنى أغنياء مكة، نعم هو ترك كل ذلك وأصبح الآن فقيرًا معدمًا، لكن الناس وخاصة في هذه البيئة لا ينسون الأصول كما أنهم يعلمون أن مصعبًا رضي الله عنه لو أراد أن يعود إلى غناه وأمواله لكان هذا يسيرًا جدًّا، فيكفي أن يترك الإسلام ويعود إلى الأصنام وستفتح له أبواب الدنيا، فليس فقره عن اضطرار، ولكن عن رغبة واختيار.
رابعًا: سيكون مصعب بن عمير رضي الله عنه خير قدوة للشرفاء الذين يريدون الدخول في هذا الدين، يترددون بسبب ملكهم وأموالهم، فها هو رجل من الشرفاء الأغنياء اقتنع بهذا الدين ودخل فيه، وضحى بما يملك ورضي بالله ربًّا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً وبالإسلام دينًا، وعندما يرى الناس قدوة حقيقية فإنها تكون أبلغ ألف مرة من الكلام النظري، كما أن الفقراء إذا رأوا ذلك علموا أن هذا الدين هو خلاصهم، فهو - حقيقة - يضم الغني والفقير ويضم الشريف والحليف ويضم العبد والحر، وهذا واقع مشاهد وليس أساطير تحكى.
خامسًا: سيكون إرسال مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى يثرب إعلانًا واضحًا لأهل يثرب ومكة وغيرها أن هذا الدين ليس ثورة من الفقراء على الأغنياء، وسيسمع أهل الجزيرة كلهم بسفير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وستتضح الرؤية عند من غابت عنه لسبب أو لآخر، فما زال إلى يومنا هذا من على بصره غشاوة، فيعتقد أن دعوة الإسلام كانت لعوامل اقتصادية خاصة بالفقراء، فها هو السفير المسلم رجل كان غنيًّا واسع الغنى، ترك أمواله ليصبح مسلمًا وإن كان فقيرًا.
سادسًا: مصعب بن عمير رضي الله عنه رجل أثبت قدرته على الوقوف أمام فتنة الدنيا، ونجح في الاختبار الصعب التي قامت به أمُّه معه، فإن كان على رفض الدنيا من يد أمه- قادرًا، فهو على رفضها من أيدي الآخرين أقدر، وبذلك يضمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لن يحيد عن الطريق وهو بمفرده على بُعد خمسمائة كيلو متر منه صلى الله عليه وسلم. روى الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلاً وعليه إهاب كبش (جلد) قد تنطَّق به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "انْظُرُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَيْنَ أَبَوَيْنِ يُغْدُوَانِهِ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ والشَّرَابِ، فَدَعَاَهُ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى مَا تَرَوْنَ".
سابعًا: أثبت أيضًا مصعب بن عمير قدرته على الوقوف أمام فتنة الرئاسة، فهو من بني عبد الدار ومكانته في قريش معروفة وزعامته فيه كانت وشيكة لولا ارتباطه بهذا الدين، ولو كان يريد الزعامة لظل على إشراكه ولم يدخل في الإسلام، وبذلك يطمئن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوضع في يثرب، وهذه مشكلة تواجه كثيرًا من الدعوات، فأحيانًا يتأثر الناس بالداعية الذي يدعوهم ويتبعونه بصورة تصيبه بالفتنة، فيفتن في قدراته وإمكانياته ويبدأ في الاستقلال عن الدعوة الرئيسية، وتكون بذلك فتنة كبيرة وانقسام في الصفوف، وذلك كله مردّه إلى حب الرئاسة والزعامة، أما إذا اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا الرجل لا تتحرك نفسه للزعامة والقيادة، فإن هذا الرجل - ولا شك - يصبح رجلاً مناسبًا في هذا المكان، وقد رأينا النجاح العظيم الذي حققه مصعب بن عمير رضي الله عنه في يثرب، ومع ذلك لم تتغير نفسيته، ولم يطلب ولاية في يثرب أو في غيرها، ولم ينظر أبدًا إلى أتباعه على أنهم نتاج عمله، بل ظل عالمًا أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهو على كل شيء قدير.
ثامنًا: كان مصعب بن عمير من المهاجرين إلى الحبشة الأولى والثانية، ولا ندري حقيقة متى عاد من الهجرة الثانية وكيف عاد، ولماذا هو بالذات الذي عاد، وقد بقي هناك بقية المهاجرين إلى العام السابع من الهجرة، ولعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي طلبه للعودة، ولعله كان يريده لهذه المهمة النبيلة. وهجرة الحبشة - لا شك - قد أكسبت مصعبًا خبرة في التعامل مع الأغراب، والتعامل مع عادات وتقاليد مختلفة، فإن كان يستطيع أن يتعامل مع أهل الحبشة - وهم ليسوا عربًا أصلًا، ويدينون بدين لا ينتشر في مكة - فهو ولا شك يستطيع أن يتعامل مع أهل يثرب وهم من العرب ويدينون بدين مألوف له، بل كان هو ذاته من أهل هذا الدين قبل الإسلام، فمصعب يمتلك خبرة ربما لم تتوفر في غيره.
تاسعًا: هجرة الحبشة أيضًا أكسبت مصعبًا القدرة على ترك الديار ومفارقة الأهل والأحباب، لقد ألف مصعب أن يعيش بعيدًا عن بلده، ولا يدري أحدٌ كم ستأخذ مهمة دعوة أهل يثرب؟ وكم سيحتاج من الوقت هناك؟ فإذا كان هناك رجل قد علمنا أنه قد تعود على الغربة، فهذا هو الرجل المناسب.
عاشرًا: مصعب بن عمير رضي الله عنه كان يبلغ من العمر عند إرساله إلى يثرب حوالي خمسة وثلاثين عامًا، وهو سن قد بلغ فيه درجة من النضج والكفاية تؤهله لهذا العمل الكبير، فهو ليس شابًّا صغيرًا حتى يتهور ويندفع، وليس شيخًا مسنًّا حتى تصعب عليه الحركة والدعوة ويشق عليه ذلك.
لهذه الأسباب أو لبعضها أو لغيرها اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل مصعب بن عمير لأول سفارة في الإسلام، وعادت القافلة المباركة إلى يثرب، اثنا عشر أنصاريًّا ومهاجر واحد.
تحسبونهم قلة، لا والله بل كثيرًا، وسترى الأيام أن ما فعله هذا الرهط من الرجال قد فاق ما تفعله أجيال وأجيال.
كيف كان هؤلاء قبل الإسلام؟ كانوا لا شيء. كيف أصبحوا بعد الإسلام؟ أصبحوا ملء سمع الدنيا وبصرها، وتلك هي معجزة الإسلام الحقيقية، صناعة الرجال.
[أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]{الملك: 22}.
مصعب في يثرب
عاد الأنصار الاثنا عشر إلى يثرب ومعهم السفير القدوة مصعب بن عمير، وكانت يثرب منذ عام واحد غارقة في دم الأوس والخزرج؛ فقام الأنصار وضيفهم بجهد منظم ورائع يفوق الوصف، فماذا فعلوا؟
نزل مصعب بن عمير رضي الله عنه في ضيافة أسعد بن زرارة الخزرجي رضي الله عنه، وهو من أهل العقبة الأولى، بل من الستة الذين أسلموا أول الأمر على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يتجاوز الثلاثين عند إسلامه ولكن حكمته فاقت حكمة الشيوخ، ولم يبق في الإسلام إلا أربع سنوات فقط ولكنه قدم فيها ما لم يقدمه غيره في عشرات السنين.
كان أسعد بن زرارة رضي الله عنه يأخذ مصعب بن عمير إلى كل بقعة في يثرب، يدخل به في كل بيت، في كل ملتقى، في كل شارع، في كل حديقة، لا يترك أحدًا إلا وقدم له مصعب بن عمير رضي الله عنه، ثم يبدأ مصعب في التعريف بالإسلام وقراءة القرآن حتى عُرف مصعب في المدينة بالمقرئ. أدوار متكاملة، مصعب بغير أسعد بن زرارة لن يستطيع أن يحضر مجالس أهل يثرب، وأسعد بغير مصعب لا يستطيع أن يقنع الناس بحلاوة الإسلام، رجل يمهد الطريق وآخر يسير فيه، رجل يجمع المستمعين وآخر يخطب ويتكلم ويشرح ويفسر، قد يعتقد بعض الناس أن الداعية هو الخطيب المفوه والمتحدث البليغ، لكن سبحان الله! لم يكن أسعد بن زرارة داعية بهذا التعريف، ولكنه داعية، وداعية عظيم، ولكن له وظيفة أخرى لا تقل أهمية عن وظيفة المقرئ مصعب بن عمير، وهذه فضيلة العمل الجماعي المنظم، دين الإسلام دين عظيم يستخدم كل المواهب لنفع الأرض ولخدمة الدين ولبناء الأمة. ويُحسب أيضًا لأسعد بن زرارة رضي الله عنه أنه لم يكن يأخذ مصعب بن عمير لديار الخزرج فقط، بل كان يأخذه أيضًا إلى ديار الأوس، القبيلة التي ما جفت سيوفها بعدُ من دماء الخزرجيين، وكذلك ما جفت سيوف الخزرج من دماء الأوس، ولكنه تناسى تمامًا كل الشحناء والبغضاء القديمة، وأدرك حقيقة الدنيا وقيمتها بالنسبة للآخرة، فعلم أن التنافس على هذه الدنيا نوع من الحماقة وأن العمل للآخرة هو الذي يبقى، وعمله مع الأوس سيبقى كما سيبقى عمله مع الخزرج، بل لعله أثقل في ميزان الله عز وجل؛ لأنه أصعب، والأجر على قدر المشقة.
ومن أجمل وأروع وأعظم ما حدث مع أسعد ومصعب هو دعوتهما لأسيد بن حضير ولسعد بن معاذ رضي الله عنهما، وهما سيدا بني عبد الأشهل من قبيلة الأوس، لقد ذهب أسعد بن زرارة بمصعب بن عمير إلى عقر دار الأوس، ذهبا إلى حديقة للأوس وجلس به هناك وجمع له ما استطاع من الخزرج، وأخذ مصعب بن عمير يقرأ لهم القرآن ويعلمهم الإسلام.
كل هذا وسادة الأوس في الحديقة: أسيد بن حضير وسعد بن معاذ، وكانا آنذاك على الشرك، سمع سعد بن معاذ بأمر مصعب وأسعد بن زرارة فغضب وهمَّ أن يذهب إليهما فيطردهما من الحديقة، ولكنه توقف لكون أسعد بن زرارة ابن خالته، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: اذهب إلى هذين اللذين قد أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانْهَهُما عن أن يأتيا دارينا، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا.
فأخذ أسيد حربته وأقبل إليهما، فلما رآه أسعد قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه. وهذا أمر عظيم من أسعد رضي الله عنه، فمصعب هو المقرئ وهو المعلم وهو السابق ولكن [وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ] {الذاريات:55}. ويدل أيضًا على وضوح الرؤية عند أسعد رضي الله عنه، وعلمه أن الهداية من عند الله. قال مصعب لأسعد: إن يجلس أكلمه. وجاء أسيد ووقف عليهما متشتمًا وقال: ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة. كلام شديد وغليظ، ولكن هذا الكلام لم يستثر مصعب بن عمير ولم يستفزه، داعية حكيم، كما أن الكلام لم يستفز أسعد، ولو قيل هذا الكلام أيام جاهليته لسالت فيه دماء، ولكن هذا هو حِلْم الإسلام.
ثم تكلم مصعب فقال في هدوء عجيب: أوَ تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كُفَّ عنك ما تكره. فقال أُسَيْد بن حضير: أنصفت. ثم ركز حربته وجلس يستمع، وهذه نقطة لا بد أن تلفت الأنظار، لقد كان من الممكن أن يرفض أسيد السماع من الأصل، ولكن الواضح أنه ليس بمتكبر، ومن كانت هذه هيئته فيرُجى له الإيمان، ثم بدأ مصعب يتكلم بالإسلام ويقرأ القرآن، ووقعت كلمات الرحمن في قلب أسيد بن حضير، ما هذا الكلام؟ ما أروعه! كيف غاب عنه قبل ذلك؟ وظهرت انفعالات أسيد الداخلية على وجهه، حتى قال أسعد: فوالله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتهلله. لقد استضاء وجه أسيد لما نوَّر الله قلبه بالإيمان، الرجل هو الرجل ولكنه فقط آمن.
قال أسيد بن حضير: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟
يا الله! موقف عجيب، وإن الإنسان ليَحَارُ من موقف هذا الصحابي العظيم أسيد بن حضير، والحق أنني لا أستطيع أن أصف العظمة التي وصل إليها هذا الصحابي الجليل، هل أصف تواضعه الجمَّ؟ هل أصف رضوخه للحق عند أول ظهوره؟ هل أصف سرعة اتخاذه القرار في المواقف الحاسمة؟ الرجل كان يقف متشتمًا، مستعدًّا لقتال، متجهزًا لحرب، ثم سمع كلمات قلائل ماذا سمع؟ مهما سمع فكم عدد الكلمات التي سمعها؟ إنها قليلة، قليلة، ولكنها من كلمات الرحمن فغيرت كلية في كيان الرجل، وفي لحظة ترك دينه الذي عاش عليه سنوات وسنوات، ترك دين آبائه وأجداده، وقف معاديًا لكل مشركي الأرض بما فيهم قومه وعشيرته، موقف عظيم! عظيم، عظيم.
كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟
قالا له: تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين.
فقام واغتسل، وطهر ثوبه، وتشهد، وصلى ركعتين.
الآن أصبح أسيد بن حضير مسلمًا، سبحان الله، بهذه السهولة، شعر أسيد بن حضير بحلاوة الإيمان، وأراد أن ينقل هذه الحلاوة إلى أحبابه، لم يصبح مسلمًا فقط بل أصبح داعية.
قال أسيد: إن ورائي رجلاً، إن تبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرشده إليكما الآن. يقصد من؟ يقصد سعد بن معاذ سيد الأوس، وقام أسيد بن حضير رضي الله عنه وأخذ حربته وانصرف إلى سعد بن معاذ وجاءه وهو يجلس بين قومه، وسعد بن معاذ رجل ذكي لماح، فقال بعد نظرة واحدة إلى أسيد: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم. وصدق سعد، لقد ذهب بوجه كافر وعاد بوجه مؤمن، وشتان.
فلما وقف أسيد على القوم قال له سعد: ما فعلت؟
هنا أخذ أسيد بن حضير رضي الله عنه يفكر، لو ذكرت له أنني آمنت بالله وبالإسلام، فقد يغضب ويثور، وليست المشكلة في غضبه وثورته أنه قد يؤذيني، ولكن المشكلة أنه لن يسمع ما سمعت، فماذا أفعل؟ فقرر أسيد بن حضير أن يقوم بحيلة يدفع بها سعد بن معاذ دفعًا إلى مجلس مصعب بن عمير، وهو على يقين أنه إن سمع ما سمع فسوف يؤمن، فهذا كلام لا يقاومه عاقل.
قال أسيد: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت. ثم بدا لأسيد أن يكذب كذبة تدفع سعدًا إلى مجلس مصعب وأسعد بن زرارة، فقال: وقد حُدِّثْتُ أن بني حارثة (فرع من الأوس) خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك ؛ ليخفروك.(أي يريدون إهانتك وتقليل شأنك)، فقام سعد مغضبًا وأخذ حربته وخرج إليهما.
فلما ذهب إلى هناك وجدهما يجلسان في أمان، وليس هناك أثر لبني حارثة أو غيرهم فأدرك أن أسيدًا فعل حيلة حتى يدفعه إليهما، فرآه أسعد من بعيد فلم يجزع، ولكن قال لمصعب: جاءك والله سيدٌ، من ورائه قومه، إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد.
فلما ذهب إليهما سعد بن معاذ وقف عليهما متشتمًا ورفع صوته عليهما وهو يخاطب أسعد بن زرارة رضي الله عنه ويقول: والله يا أبا أمامة، لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رُمْتَ هذا مني، تغشانا في دارنا بما نكره؟
هنا تدخل مصعب للحديث ولم يعطِ فرصة لأسعد للرد حتى لا يتأزم الموقف، فقال في حكمة: أوَ تقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره. قال سعد بن معاذ: أنصفت.
الله أكبر، يبدو أنه من نفس طبيعة أسيد بن حضير رضي الله عنه.
فركز سعد بن معاذ حربته ثم جلس فتكلم مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن، ووقعت الكلمات في قلب سعد بن معاذ كما وقعت في قلب أسيد بن حضير رضي الله عنه، حتى قال أسعد بن زرارة رضي الله عنه: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتهلله. ثم قال سعد بن معاذ: كيف تصنعون إذا أسلمتم؟
سبحان الله! هذا القرآن عجيب، والله عجيب.
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ] {يونس: 57}. فعلاً القرآن شفاء، وهل هناك مرض أشد من الكفر؟ وها هو سعد بن معاذ رضي الله عنه يتحول من كافر لا يساوي عند الله شيئًا إلى مؤمن يهتز عرش الرحمن لموته، كيف؟ بالقرآن، بالإسلام، باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، بتغيير الهدف والوجهة، بدلاً من كل أعراض الدنيا، أصبح الهدف هو الله والجنة.
كيف تصنعون إذا أسلمتم؟
قالا: تغتسل وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين.
ففعل ذلك سعد وأصبح مسلمًا.
وكما تحول أسيد بن حضير رضي الله عنه من كافر إلى مؤمن إلى داعية، فكذلك تحول سعد بن معاذ من كافر إلى مؤمن إلى داعية، وإذا كان أسيد بن حضير رضي الله عنه قد دعا رجلاً واحدًا هو سعد بن معاذ رضي الله عنه، فإن سعد بن معاذ فعل ما هو أعجب من ذلك، لقد أخذ حربته وأقبل على قومه الذين كان يجلس معهم منذ ساعة أو أقل، فلما رأوه لاحظوا الفرق الهائل في شكله وهيئته فقالوا: نحلف بالله، لقد رجع بغير الوجه الذي ذهب به. وقف عليهم سعد بن معاذ وقال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟
قالوا: سيدنا، وأفضلنا رأيًا، وأيمننا نقيبةً.
قال سعد في صرامة ووضوح: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله.
مفاصلة كاملة عجيبة، الرجل زعيم وسيد وأمير، له وضع اجتماعي مرموق جدًّا، ماذا يحدث لو رفض قومه كلامه؟ إنه سيصبح وحيدًا وسيختارون سيدًا غيره، ولكن سبحان الله، لقد أصبحت الدنيا بأسرها في عين سعد تافهة حقيرة قليلة، ثم إنه منذ قليل رأى قدوة حسنة مرت بنفس التجربة ونجحت.
رأى مصعب بن عمير رضي الله عنه الفتى الذي كان مدللاً مترفًا منعمًا ولكنه كان مشركًا، رآه الآن قد تخشّف جلده وتخشنت ثيابه ولكنه أصبح مؤمنًا عالمًا تقيًّا ورعًا، اشتاقت نفسه أن يكون على هذه الصورة البهية، اشتاقت نفسه أن يترك حياة اللهو والمال والسيادة والدنيا إلى حياة الجد والجهاد والدين والجنة، عظمت في عينه الأهداف، وشعر أن ما مضى من حياته كان عمرًا ضائعًا، وأصبح كل همه ألاّ يضيع عمره الباقي.
إن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله.
مفاصلة كاملة، فماذا كانت النتيجة؟ انظر وتأمل:
يق | |
|