محطات في الهجرة النبوية
إذنه صلى الله عليه وسلم لمسلمي مكة بالهجرة
قال ابن إسحاق: فلما أذن الله تعالى له صلى الله عليه وسلم في الحرب وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه. وأوى إليهم من المسلمين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها، واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال (إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها) فخرجوا أرسالا، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة، والهجرة إلى المدينة.
النزول بقباء
قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عويمر بن ساعدة قال حدثني رجال من قومي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : لما سمعنا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، وتوكفنا قدومه كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال فإذا لم نجد ظلا دخلنا، وذلك في أيام حارة.
حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسنا كما كنا نجلس حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلنا البيوت فكان أول من رآه رجل من اليهود، وقد رأى ما كنا نصنع وأنا ننتظر قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علينا، فصرخ بأعلى صوته يا بني قيبلة هذا جدكم قد جاء. قال فخرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ظل نخلة، ومعه أبو بكر رضي الله عنه في مثل سنه وأكثرنا لم يكن رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك وركبه الناس وما يعرفونه من أبي بكر، حتى زال الظل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام أبو بكر فأظله بردائه فعرفناه عند ذلك.
متى قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة؟
كان قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة من ربيع الأول وفي شهر أيلول من شهور العجم، وقال غير ابن إسحاق قدمها لثمان خلون من ربيع الأول وقال ابن الكلبي خرج من الغار يوم الاثنين أول يوم من ربيع الأول ودخل المدينة يوم الجمعة لاثنتي عشرة سنة وكانت بيعة العقبة أوسط أيام التشريق.
هجرة عمر وقصة عياش معه
قال ابن إسحاق: ثم خرج عمر بن الخطاب، وعياش بن أبي ربيعة المخزومي، حتى قدما المدينة. فحدثني نافع مولى عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر، عن أبيه عمر بن الخطاب، قال (اتعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة، أنا وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاصي بن وائل السهمي التناضب من أضاة بني غفار، فوق سرف، وقلنا : أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه. قال فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب، وحبس عنا هشام وفتن فافتتن).
تغرير أبي جهل والحارث بعياش
فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما، حتى قدما علينا المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فكلماه وقالا : إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرق لها، فقلت له يا عياش إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت. قال فقال أبر قسم أمي، ولي هنالك مال فآخذه. قال فقلت : والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالا، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما. قال فأبى علي إلا أن يخرج معهما ; فلما أبى إلا ذلك قال قلت له أما إذ قد فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها. فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل يا ابن أخي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه ؟ قال بلى. قال فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن.
قال ابن إسحاق : فحدثني به بعض آل عياش بن أبي ربيعة : أنهما حين دخلا به مكة دخلا به نهارا موثقا، ثم قالا : يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا.
كتاب عمر إلى هشام بن العاصي
قال ابن إسحاق : وحدثني نافع عن عبد الله بن عمر، عن عمر في حديثه قال (فكنا نقول ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم قال وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ").
قال عمر بن الخطاب : فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاصي قال فقال هشام بن العاصي : فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى، أصعد بها فيه وأصوب ولا أفهمها، حتى قلت : اللهم فهمنيها. قال فألقى الله تعالى في قلبي أنها إنما أنزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا. قال فرجعت إلى بعيري، فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة.
خروج الوليد بن الوليد إلى مكة في أمر عياش وهشام
قال ابن هشام : فحدثني من أثق به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو بالمدينة (من لي بعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاصي ؟ فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة : أنا لك يا رسول الله بهما، فخرج إلى مكة، فقدمها مستخفيا، فلقي امرأة تحمل طعاما، فقال لها : أين تريدين يا أمة الله ؟ قالت أريد هذين المحبوسين - تعنيهما - فتبعها حتى عرف موضعهما، وكانا محبوسين في بيت لا سقف له فلما أمسى تسور عليهما، ثم أخذ مروة فوضعها تحت قيديهما، ثم ضربهما بسيفه فقطعهما، فكان يقال لسيفه "ذو المروة" لذلك ثم حملهما على بعيره وساق بهما، فعثر فدميت أصبعه فقال:
هل أنت إلا أصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت
ثم قدم بهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة).
هجرة عامر وزوجه
قال ابن إسحاق: ثم كان أول من قدمها من المهاجرين بعد أبي سلمة عامر بن ربيعة، حليف بني عدي بن كعب، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة بن غانم بن عبد الله بن عوف بن عبيد بن عدي بن كعب. ثم عبد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كثير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، حليف بني أمية بن عبد شمس، احتمل بأهله وبأخيه عبد بن جحش وهو أبو أحمد - وكان أبو أحمد رجلا ضرير البصر وكان يطوف مكة، أعلاها وأسفلها، بغير قائد وكان شاعرا، وكانت عنده الفرعة ابنة أبي سفيان بن حرب وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم - فغلقت دار بني جحش هجرة فمر بها عتبة بن ربيعة. والعباس بن عبد المطلب، وأبو جهل بن هشام بن المغيرة، وهي دار أبان بن عثمان اليوم التي بالردم وهم مصعدون إلى أعلى مكة، فنظر إليها عتبة بن ربيعة تخفق أبوابها يبابا، ليس فيها ساكن فلما رآها كذلك تنفس الصعداء ثم قال
وكل دار وإن طالت سلامتها *** يوما ستدركها النكباء والحوب
قال ابن هشام : وهذا البيت لأبي داود الإيادي في قصيدة له. والحوب التوجع
( وهو في موضع آخر الحاجة ويقال الحوب الإثم ).
قال ابن إسحاق : ثم قال عتبة ( بن ربيعة ) : أصبحت دار بني جحش خلاء من أهلها فقال أبو جهل وما تبكي عليه من قل بن قل. قال ابن هشام : القل : الواحد. قال لبيد بن ربيعة :
كل بني حرة مصيرهم *** قل وإن أكثرت من العدد
قال ابن إسحاق : ثم قال هذا عمل ابن أخي هذا، فرق جماعتنا، وشتت أمرنا وقطع بيننا. فكان منزل أبي سلمة بن عبد الأسد وعامر بن ربيعة، وعبد الله بن جحش، وأخيه أبي أحمد بن جحش على مبشر بن عبد المنذر بن زنبر بقباء. في بني عمرو بن عوف ثم قدم المهاجرون أرسالا، وكان بنو غنم ابن دودان أهل إسلام قد أوعبوا إلى المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هجرة رجالهم ونساؤهم عبد الله بن جحش، وأخوه أبو أحمد بن جحش، وعكاشة بن محصن، وشجاع وعقبة ابنا وهب وأربد بن حميرة.
قال ابن هشام : ويقال ابن حميرة.