منتديات حجازة التعليمية
ضيفنا الكريم
حللت أهلاً .. ووطئت سهلاً ..
أهلاً بك بين اخوانك واخواتك
آملين أن تلقى المتعة والفائدة معنا
حيـاك الله
نتمنى أن نراك بيننا للتسجيل
مع خالص التحية بدوام الصحه والسعاده
ادارة منتديات مدرسة حجازةالثانوية المشتركة
منتديات حجازة التعليمية
ضيفنا الكريم
حللت أهلاً .. ووطئت سهلاً ..
أهلاً بك بين اخوانك واخواتك
آملين أن تلقى المتعة والفائدة معنا
حيـاك الله
نتمنى أن نراك بيننا للتسجيل
مع خالص التحية بدوام الصحه والسعاده
ادارة منتديات مدرسة حجازةالثانوية المشتركة
منتديات حجازة التعليمية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
البوابةالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 قصة الاسلام الجزء3

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
اسامه جاد
مشرف سوبر
مشرف سوبر
اسامه جاد


ذكر عدد الرسائل : 3356
العمر : 53
العمل/الترفيه : معلم اول احياء وعلوم بيئه وجيولوجيا
نقاط : 13748
تاريخ التسجيل : 14/02/2009

قصة الاسلام الجزء3 Empty
مُساهمةموضوع: قصة الاسلام الجزء3   قصة الاسلام الجزء3 I_icon_minitimeالثلاثاء ديسمبر 15, 2009 7:35 pm

4-الدّعوة جهرا

بعد ثلاث سنوات كاملة من الدعوة السرية كان قد بلغ عدد المسلمين نحو الستين من الرجال والنساء، وقد بات من المتعذر على أهل مكة أن يستأصلوا الإسلام بكامله، خاصة إذا كان هؤلاء المسلمون من قبائل مختلفة وأن معظمهم من الأشراف، وهنا أَذِن الله عز وجل لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أن يجهر بالدعوة.
الدعوة الجهرية ولماذا البدء بالأقربين
كانت الدعوة الجهرية مرحلة جديدة من مراحل بدايات الدعوة الإسلامية، وفي بداية هذه المرحلة أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته بينما ظل بقية المسلمين على سرّيتهم ما استطاعوا، وكان هذا تدرجًا واضحًا في طريق الدعوة.

وكما أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، فقد أُمر أن يبدأ بأقربائه بالتحديد ودون بقية الناس، وكان هذا أيضًا نوعًا من التدرج في إيصال الدعوة للعالمين، حيث كان قد نزل قوله تعالى: [وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] {الشعراء:214}

ولماذا الأقربون بالذات؟!

أولاً:

لأن هناك حبًّا فطريًّا لشخص الداعية من الأقربين، وبهذا فإن الأقربين سيكونون أقرب للإجابة، فالقريب ليس بينه وبين الداعية حواجز قبلية أو حواجز عنصرية، أو غير ذلك من الحواجز.

ثانيًا:

لأنه بذلك سيكون في حمية قبلية تدافع عنه، وإن هذا ليعطي قوة كبيرة للداعية، خاصة إذا كان له عائلة كبيرة وضخمة، كما أنه لو آمنت هذه العائلة بما يقول الداعي لأصبحت عضدا له في دعوته.

ثالثًا:

أن دعوة الأقارب مسئولية أُولى على الداعية، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ". ومن هنا جاءت أهمية صلة الرحم وأهمية دعوة الأقربين.

ولنتخيل لو أن الداعية كان يُحارب في عقر داره، يُحارب من داخل بيته أو عشيرته أو قبيلته، نتخيل لو أن زوجته أو ابنه أو أباه أو غيرهم ممن هم من أهله وعشيرته كان يعوق مسيرته، فإنه - ولا شك - سيواجه الكثير من الصعاب في طريق الدعوة، ومن هنا نؤكد على نقطة بنائية مهمة، ألا وهي: دعوة الأقربين أهم بكثير من دعوة الناس عامة.

وفي توضيح أكثر وتدليل على ما سبق ما كان من أمر لوط عليه السلام حينما جاءه قومه يراودونه عن ضيفه، فقد رد عليهم متأسفًا: [قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ] {هود:80} .

إذ لم يكن لسيدنا لوط عليه السلام عائلة قوية تحميه وتقف من ورائه، فكان يودّ لو أن له عائلة قوية لوقف أمام القوم يدافع عن ضيفه، وهنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم معلقًا على موقفه هذا: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى لُوطٍ؛ لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (كان يأوي إلى الله عز وجل)، فَمَا بَعَثَ اللَّهُ بَعْدَهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ فِي ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ.

وعلى النقيض من هذا كان موقف شعيب عليه السلام، وذلك حين جاء إليه قومه يعترضون عليه فقالوا: [وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ] {هود:91} . ومن هنا فقد كانت دعوة الأقربين ذات أهمية بالغة في بناء الأمم.

أبو لهب ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم الأولى للأقربين
حين نزل قوله تعالى: [وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] {الشعراء:214} تحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا الأقربين إلى طعام وكان عددهم خمسة وأربعين من أهله وعشيرته، حيث إن الدعوة على الطعام مما ترقق القلوب، وتبعث على المودة والألفة.

وفي هذا الاجتماع وقبل أن يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجهر ويصرح لهم بأمر دعوته حدث أمر غريب، فقد وقف أبو لهب وقال:

هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك، فتكلم ودع الصباة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة.

وهذا يعني أن أبا لهب كان يعلم بأمر الدعوة وأمر الإسلام، ولكنه ما اعترض عليه من قبل، ولم يعترض أحد من قريش قبل ذلك مع اكتشافهم أمر بعض المسلمين، ولقد كان ذلك لأن المسلمين كانوا يكتفون بعبادات فردية، كانوا يعبدون الله عز وجل في بيوتهم، وقد ظن أهل قريش أن هذا لا يعدو أن يكون مثل أفعال بعض السابقين الذين تنصروا أو اتخذوا الحنيفية دينا.

فالأمر الطبيعي أن أهل الباطل لا يمانعون أن تعبد ما تشاء في بيتك، طالما أن ذلك دونما تدخلٍ منك في أمر المجتمع، أما أن يجمع محمد صلى الله عليه وسلم الناس ويبدأ في دعوتهم إلى ما هو عليه، ثم يسفّه ما يعبدون من دون الله، ثم يُحكّم الله الذي يعبده في أمورهم، فهذا ما يرفضه أهل الباطل من قريش.

ومن ثم كانت هذه مبادرة أبي لهب، وقد أتبعها بكلام شديد حيث قال:

فما رأيت أحدًا جاء على بني أبيه بشرٍّ مما جئت به.

وهنا وفي حنكة وحكمة بالغة سكت الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يقم بما كانت من أجله هذه الدعوة وذاك الاجتماع، فلم يدعُ الناس، ولم يدخل في جدل مع أبي لهب، حيث الظرف غير موات، فالجو مشحون، والخلاف قريب، وليس من الحكمة تبليغ الدعوة في مثل هذه الأحوال، وخاصة أن أبا لهب هذا هو عمه وله أيضًا أتباع وأنصار.

إذن فليجمع الرسول صلى الله عليه وسلم الناس في موعد آخر، يبادر هو فيه الكلام ويسبق أبا لهب وغيره.

أبو طالب ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم الثانية للأقربين
في جولة ثانية، وفي اجتماع ثان، وفي أمر إن دل على شيء فإنما يدل على أن طريق الدعوة شاق وطويل، وأن الدعوة مكلفة ولها ثمن وأثمان، وأن الداعية يعطي لا يأخذ، وأنه يساعد لا يطلب المساعدة، وأنه يخدم لا يطلب الخدمة، جمع الرسول الله صلى الله عليه وسلم أهله وعشيرته مرة ثانية على الطعام، وفي هذا الموعد الثاني بادر الرسول صلى الله عليه وسلم بالحديث فقال:

"الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ، وَأُؤْمِنُ بِهِ وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ". إنها كلمات خطيرة جدا في مكة في ذلك الوقت...

ثم قال: "إِنَّ الرَّائِدَ لَا يَكْذِبُ أَهْلَهُ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ خَاصَّةً وَإِلَى النَّاسِ عَامَّةً، وَاللَّهِ لَتَمُوتُنَّ كَمَا تَنَامُونَ، وَلَتُبْعَثُنَّ كَمَا تَسْتَيْقِظُونَ، وَلَتُحَاسَبُنَّ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَإِنَّهَا الْجَنَّةُ أَبَدًا أَوِ النَّارُ أَبَدًا.

ورغم أنه خطاب قصير جدًّا، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع فيه الكليات الأساسية للعقيدة، ووضح فيه مغزى الرسالة، كما أنه - تقريبًا - أعلن الحرب على آلهة قريش وعلى من يقفون وراءها.

وإزاء هذا الخطاب القصير والبسيط في ظاهره، العميق الدلالة في جوهره، كان لأقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم موقفان متباينان:

الموقف الأول:

هو موقف أبي طالب، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أحبه حبًّا يفوق حب أولاده، وهو الذي كان قد تكفل به بعد وفاة جده عبد المطلب، والذي يعدّ موقفه هذا من أكبر علامات الاستفهام في التاريخ.

فقد وقف إلى جواره يشجعه بكل طاقاته، لكنه ما دخل في دينه أبدا، لقد تحمّل أبو طالب الكثير من تبعات الدين الشاقة ولكنه لم يستمتع بأجمل ما فيه، تضحية وبذل وجهاد وعطاء، ولا إيمان [إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ] {القصص:56} ، قام أبو طالب فقال:

"ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقنا لحديثك، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم غير أني أسرعهم إلى ما تحب (يقصد النصرة)، فامض لما أُمرت به (وهذا يعني أنه كان يعلم أن الله أمره بذلك ولم يأت به من عنده)، فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب.

تناقض بشع في ذات المقالة، فقد وقفت التقاليد حاجزًا وحائلاً بين أبي طالب وبين الإيمان، ووقف تقديس رأي الآباء والأجداد حتى وإن كان مخالفًا للحق دون دعوة الحق.

لكن ما يهمنا هو أن أبا طالب كان واضحا وصريحا في دفاعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول يوم جهر فيه بالدعوة لأقاربه.

الموقف الآخر:

هو موقف أبي لهب فما زال مصرًّا على عدائه فقد قال: هذه والله السوأة، خذوا على يده قبل أن يأخذ غيركم.

فقال أبو طالب: "والله لنمنعه ما بقينا".

فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين
جاءت الأوامر من الله عز وجل أن يوسع الرسول صلى الله عليه وسلم دائرة الدعوة، ويقوم بصيحة أعلى لدعوة قبيلته الكبيرة قريش بكل بطونها، فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن صعد جبل الصفا فجعل ينادي:

"يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ، يَا بَنِي هَاشِمٍ"ٍ. كل بطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما الأمر، فجاء - كما يقول ابن عباس في رواية البخاري - أبو لهب وقريش ( يذكر أبا لهب خاصة لموقفه في هذا الحدث).

فقال صلى الله عليه وسلم:"أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغْيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟" ومع أن هذا أمر غاية في الخطورة ويحتاج إلى رويّةٍ وتثبُّت، إلا أنهم قالوا: نَعَمْ؛ مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقًا. فقال صلى الله عليه وسلم: "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ".

أي إذا كنتم تصدقون إنذاري لكم بخيل وأعداء فيجب أن تصدقوا إنذاري لكم بعذاب شديد إذا بقيتم على ما أنتم عليه من عبادة الأوثان وتحكيمها في حياتكم.

وكان موقف أبي لهب هو أن قال: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟

فنزل قوله تعالى: [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ] {المسد:1} .

كانت التقاليد وأعراف المجتمع هي التي منعت أبا طالب من الإيمان، وكان الذي منع أبا لهب من الإيمان هو الجبن، والجبن الشديد، فهو الذي قال: "ليس لنا بالعرب من طاقة". ليس لنا قدرة على تغيير المألوف، ولا يمتنع أبو لهب أن يقف بجوار القوي وإن كان مخالفًا للحق، كما أنه لا يمتنع عن خذلان ابن أخيه والتكذيب بالحق الذي جاء به طالما هو في موقف الضعيف كما يتراءى له، وإن كان من أقاربه ومن عشيرته، وهذا هو الذي أرداه فجعله من الأخسرين.

وهكذا نرى التدرج الواضح في أمر الدعوة والذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد دعا الأقارب أولاً، ثم قريشًا، ثم عامة الناس.



ومع الأمر الإلهي: [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ] {الحجر:94} يكون قد وضح أمران من المفترض أنهما سيظلان متلازمين في هذه المرحلة، التي تسمى مرحلة جهرية الدعوة، وهما:

الأمر الأول: إعلان الدعوة للناس عامة، مع خطورة هذا الأمر.

الأمر الثاني: الإعراض عن المشركين، بمعنى عدم قتالهم، وهذا يحمل في طياته أن المشركين سيحاولون قدر استطاعتهم أن يوقفوا مد هذه الدعوة، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة أن يتجنب الصدام مع الكفر، حتى ولو حدث كيد وحدث تعذيب، بل لو حدث قتل، فهذه ظروف مرحلة معينة دقيقة جدًّا تمر بها الدعوة.

موقف أهل مكة من رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعد أن صدع الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمر الإلهي حدث انفجار في مكة، فهذه مشاعر الغضب والاستنكار والرفض للدعوة، وهذه اجتماعات وتخطيطات ومكائد ومؤامرات، قامت الدنيا ولم تقعد، إنها - ولا شك - الحرب، ولا هوادة في الحرب.

وها هم المسلمون في مكة لم يعلنوا إسلامهم باستثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أحد من البشر يدافع عنه غير عمه أبي طالب، وهو دفاع غير مشروط، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بدفاعه مع كونه كافرا، لكنه في ذات الوقت ما فرط في كلمة واحدة من الدين، ما تنازل، وما بدل، وما غير.

كان هذا هو موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف عمه أبي طالب، وموقف مكة بصفة عامة، وقبل الحديث عن خطة مكة في القضاء على الدعوة الإسلامية نريد أن نبحث في موانع الإسلام عند أهل مكة، وبمعنى آخر:

لماذا لم يؤمن أهل مكة؟!

لماذا حاربوا الدعوة ولم ينصروها مع كون الرسول صلى الله عليه وسلم منهم؟!

أم أنهم لم يدركوا الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

وأعتقد أن الجواب على هذا السؤال الأخير هو: لا على الإطلاق؛ فعلى أقل تقدير كانت الرسالة واضحة جدا، إنما الصواب هو أنهم كانوا كما قال عز وجل في كتابه الكريم: [وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظصلى الله عليه وسلمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ] {النمل:14} .

فقد كان القرآن الكريم - ولا يزال - كلاما معجزا، وهؤلاء هم أهل اللغة والبلاغة والفصاحة، أي أنهم يعلمون جيدا أن هذا ليس من عند البشر، وقد كانوا على يقين أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله، لكن أنفسهم لم تطب بهذا التصديق.

ومما يؤكد هذا الأمر أن أُبيّ بن خلف كان يقابل الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول له: إني سأقتلك، فكان يرد عليه صلى الله عليه وسلم بقوله: "بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ". وبعد حين من الوقت خرج أُبيّ بن خلف لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقعة أحد، فكان أن أصابه صلى الله عليه وسلم بسهم سبَّب جرحًا طفيفًا في كتفه، فعاد أُبيّ إلى قومه يصرخ بأنه سيموت من هذا الجرح الطفيف، فكان الناس يقولون له: هون عليك؛ إن هذا لأمر يسير. فكان يرد عليهم أُبيّ بقوله: إنه قال لي بمكة: أنا أقتلك، فوالله لو بصق عليّ لقتلني.

فأين كان عقلك يا أُبيّ؟! أين كان عقل الذين سمعوك ولا يزالون يقاتلون النبي صلى الله عليه وسلم؟!

إذن فقد كان أهل مكة يوقنون أن هذا الذي جاء به صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي لا ريب فيه، لكن السؤال هو: لماذا - إذن - كذبوا ولم يؤمنوا؟!

- التقاليد والجبن والقبلية

في معرض الإجابة على هذا السؤال السابق فقد تعددت موانع الإسلام عند أهل مكة، فكان منهم من منعته التقاليد كأبي طالب، وكان منهم من منعه الجبن كأبي لهب كما ذكرنا، وكان منهم من منعته القبلية.

وكان أكثر مَن جسد القبلية أبو جهل، وكان من بني مخزوم، فكان يقول:

"تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطْعَموا فأطعمنا وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الرُّكب وكنا كفرسي رهان، قالوا: لنا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدًا، ولا نصدقه".

ذلك التعصب وتلك القبلية أو القومية هي من شيم وصفات الجاهلية، وأعداء الإسلام ما فتئوا يستغلون هذا المدخل، ويشعلون تلك النعرة منذ القديم وإلى الآن وإلى يوم القيامة.

فالعامل الذي أسقط به اليهود والإنجليز الدولة العثمانية هو إشعال تلك النعرة، وتفريق المسلمين إلى عرب وأتراك، ومثله الذي دخل به الفرنسيون الجزائر أيضًا كان تفريق المسلمين إلى عرب وبربر، وهو العامل أيضًا الذي فرّق به شاس بن قيس اليهودي بين الأنصار حين أشعل العنصرية في قبيلتي الأوس والخزرج، وهذه كلها من شيم الجاهلية.

- الكِبْر

كان من الناس أيضًا من منعه الكبر من الدخول تحت راية الإسلام، وما أكثر الذين امتنعوا عن طريق الحق بسبب الكبر، تلك الصفة التي ظهرت مع بداية قصة الخلق، ومنذ آدم عليه السلام، يقول تعالى: [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ] {البقرة:34} . فاقتضى كبر إبليس هذا كفره وطرده من الجنة وإبعاده عن رحمة الله تعالى.

والكبر كما عَرّفه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو: "بَطَرُ الْحَقِّ - أي معرفة الحق ثم إنكاره -، وغَمْطُ النَّاسِ" - أي احتقارهم -.

وقد جسد القرآن الكريم هذه الصفة في نفوس أهل مكة حين حكى عنهم سبحانه وتعالى قولهم: [وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ] {الزُّخرف:31} . يقصدون الوليد بن المغيرة في قرية مكة، وعروة بن مسعود الثقفي في قرية الطائف.

فكانوا يقولون: لو نزل هذا الأمر على رجل عظيم كمن في هاتين القريتين لكنا آمنا بهذا الدين، والرسول صلى الله عليه وسلم - لا شك - أعظم الخلق، لكنهم كانوا يقيسون العظمة بكثرة الأموال لا بقيم الأخلاق والدين وشرف العقيدة.

وفي آثار وسلبيات هذه الصفة فقد وضح الله عز وجل أن من يتصف بها فإنه من الصعوبة بمكان أن يتبع الحق، قال الله عز وجل: [سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ] {الأعراف:146} .

- الخوف على السيادة والحكم

كان هذا الأمر أيضًا من الأسباب التي منعت بعضًا من قريش من الدخول في الإسلام فقد كانوا يظنون أن الإسلام يسلبهم السيادة والحكم في أقوامهم.

فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليُحكّم شرع الله عز وجل في أمور العباد، وهو صلى الله عليه وسلم ناقل عن رب العزة، ومن ثم فسيسحب البساط من تحت أقدام الزعماء كأبي سفيان وغيره إن انتشر دين الإسلام بمكة، فكان الخوف على الحكم مُعوِّقًا ضخمًا للانخراط في الدعوات الصالحة.

- الخوف على المصالح المالية

كذلك أيضا كان هناك من يخاف على مصالحه المالية، فهو في الواقع مستفيد من الوضع الحالي لمكة بحالتها الكافرة الاشتراكية.

فمكة بلد آمن، وهي محط أنظار أهل الجزيرة العربية، والتجارة فيها على أشد ما تكون، ولو حارب العرب محمدا صلى الله عليه وسلم لتحول البلد الآمن إلى مثلث فتن وحروب، وهو مما لا يساعد على الربح أو التجارة، كما أن المشركين الذين يمثلون غالبية أو كل سكان الجزيرة العربية قد يرفضون القدوم إلى مكة بعد إسلامها، بل وقد يحاصرون مكة اقتصاديا إذا آمنوا هم.

ثم ماذا لو آمن واحد من كبار التجار خارج مكة؟ ألن يمنع عن مكة الطعام والتجارة؟ وإن مثل هذا ليس ببعيد؛ فقد حدث ذلك بالفعل بعد سنوات حينما أسلم ثمامة بن أثال ملك اليمامة، وكان أن منع الطعام عن مكة، فتأذت بسبب ذلك أذى كثيرا.

إذن كان الخوف على المصالح المالية والشخصية، والمصالح التجارية كان سببا رئيسيًّا لعدم قبول بعض المشركين بفكرة الإسلام.

- الخوف على الشهوات والملذات

ومثل سابقه فقد كان هناك أيضًا من أهل مكة من يخاف على شهواته وملذاته من أن تُجرّم أفعالها، أو يقضى عليها.

فالإسلام دعوة إصلاحية تدعو إلى الفضيلة ومكارم الأخلاق والبعد عن المعاصي والذنوب، وأهل الباطل لا يريدون قيودًا أو حواجز بينهم وما تهفو نفوسهم إليه، ومن ثم فإن الدعوات التي تمنع الزنا والإباحية والظلم والفساد لا بد أن تحارب، وعلى قدر انغماس الرجل في شهواته وملذاته على قدر ما يكون حربه للإسلام.

- الغباء وانغلاق الفكر

وقف الغباء أيضًا وعدم إعمال الفكر والعقل حاجزًا وسدًّا منيعًا لدى البعض من أهل مكة من أن يدخلوا في الإسلام.

فقد اعتاد مثل هؤلاء الاعتقاد بأن الآلهة متعددة، فحين يأتي رجل بعد ذلك ليخبرهم أن الله عز وجل واحد لا شريك له، تحجرت قلوبهم وعقولهم لقبول هذا الأمر الجديد، بل وقالوا: [أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ] {ص:5} .

لكن العجيب حقًّا هو أن يعتقد إنسان - أي إنسان - أن في الكون أكثر من إله، يقول سبحانه وتعالى: [مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ] {المؤمنون:91} .

وقال أيضًا: [لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ] {الأنبياء:22} .

فكان من الغريب حقًّا أمر هؤلاء الكفار، فقد كانوا يسمعون الحق وكأنهم لا يسمعون، وكما حكى عنهم القرآن الكريم: [لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ] {الأعراف:179} .

وقد وصل بهم الأمر إلى أن يناقضوا أنفسهم وعقولهم في قضية وحدانية الخالق عز وجل، يحكي حالهم سبحانه وتعالى فيقول:




{المؤمنون:84- 90} .

فإذا كان الله عز وجل هو المتصرف في كل شيء كما تعترفون، فلماذا تُحكّمون غيره؟! وهذه هي النقطة التي انغلقت عقولهم عن الإجابة عنها.

ومن هذه الفئة كان هناك في مكة من منعه غباؤه عن استيعاب فكرة أن الله عز وجل يرسل رسولاً إلى البشر من البشر، ولم يدرك عقله الحكمة من وراء ذلك، يصور ذلك القرآن الكريم فيقول: [وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولاً] {الإسراء:94} ، وبمنطقهم رد عليهم عز وجل فقال: [قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً] {الإسراء:95} . وقال أيضًا: [وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ(Coolوَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ] {الأنعام:8، 9} .

أيضًا كان هناك من الناس من منعه غباؤه أيضًا عن استيعاب فكرة البعث واليوم الآخر، ذلك الأمر الجديد الذي لم يخطر ببالهم، فقد كانوا يقيسون الأمور بأبعادها المحدودة المادية والملموسة، ولو أدركوا قدرة الله عز وجل لعلموا أنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، يقول تعالى يحكي شأنهم: [وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {النحل:38} .

فقد جاء العاص بن وائل (وفي رواية: أبي بن خلف) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم، وهو يفتته ويذروه في الهواء ثم يقول: يا محمد، أتزعم أن الله يبعث هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ، يُمِيتُكَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ يَبْعَثُكَ ثُمَّ يَحْشُرُكَ إِلَى النَّارِ".

ثم نزلت الآيات تخاطب العقول: [أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ(77)وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(78)قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ(79)الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ(80)أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الخَلَّاقُ العَلِيمُ] {يس:77- 81} .

وهذه حقيقة؛ يقول تعالى: [لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {غافر:57} . فالذي خلق السموات والأرض قادر على خلق الإنسان، ثم يكمل ذلك سبحانه وتعالى مؤكدا فيقول: [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(82)فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ] {يس:82،83} .



بل إن من الناس من أهل مكة من كان شديد الغباء حتى اعترض على القرآن الكريم نفسه، والقرآن الكريم كلام الله عز وجل لا يشبهه كلام البشر ولا يستطيعونه [لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] {فصِّلت:42} .

وقد كان العرب في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم أهل الأرض باللغة، وأكثرهم إتقانا لها، وقد كانوا يعلمون تمام العلم أن هذا النَّظْم وذاك التعبير ليس من مقدورهم، وليس في مقدور عموم البشر جميعا، ولكن كان حالهم كما أخبر سبحانه وتعالى: [فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ] {الحج:46} .

فقد وصفوا القرآن بأنه شعر، وبأنه سحر وبأنه كهانة وغير ذلك من الصفات كذبًا وافتراءً.

ومن هنا فقد كانت هذه وغيرها موانع وقفت حائلاً أمام أهل مكة من أن يدخلوا في الدين الإسلامي العظيم، وهم لم يكتفوا بذلك، بل بدءوا يخططون ويدبرون للكيد لهذا الدين، وهي سنة ماضية إلى يوم القيامة، الحرب بين الحق والباطل [وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً] {النساء:89} .

فالدعوات الإصلاحية الصحيحة لا بد أن تحارب، ولا بد أن يجتمع عليها أهل الباطل، قد تؤجل المعركة ولكن لا بد لها من حدوث، قد تأخذ صورا مختلفة ولكن لا بد في النهاية من أن تقع.

ومن هنا فقد بدأ الكفار في الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المسلمين، وقد سلكوا في ذلك السبيل نفسه الذي سلكه من قبلهم الكفار في صدر التاريخ، والذي يسلكه أمثالهم إلى يومنا هذا، والذي سيظل كذلك إلى يوم القيامة، [وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً] {الفتح:23} .




[قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(85)قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ(86)سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ(87)قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(88)سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ(89)بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ]

كفار مكة ومحاولات وقف المد الإسلامي
المحاولات السلمية

في محاولات جادة لإيقاف المد الإسلامي فقد بدأ كفار مكة يأخذون خطوات عملية ومتدرجة في سبيل ضمان وتحقيق نتائج حاسمة وسريعة، وهي - وسبحان الله - نفس الخطوات التي تتكرر في كل زمان لنفس الأغراض، يقول سبحانه وتعالى: [أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ] {الذاريات:53} .

وكانت المرحلة الأولى من مراحلهم في صد الدعوة الإسلامية ووقف المد الإسلامي هي مرحلة المحاولات السلمية، فعملوا على الآتي:
أولاً: تحييد موقف المساندين
تحييد جانب المساندين، وبمعنى آخر سلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل قوة قد تسانده أو تعضد موقفه، كان هذا هو أول فعل لكفار قريش في محاولاتهم لإيقاف المد الإسلامي الزاحف، وكان الوحيد الذي أعلن نصرته لرسول صلى الله عليه وسلم هو أبو طالب، فذهبوا إليه وقالوا له: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا، فانهه عنا.

ورغم موقف أبي طالب الثابت من دفاعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه كان قد تأثر بعض الشيء بكلام كفار قريش له، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانتهِ عن أذاهم.

وهنا رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره إلى السماء وقال: "تَرَوْنَ هَذِهِ الشَّمْسَ؟" قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: "فَمَا أَنَا بَأَقْدِرَ أَنْ أَدَعَ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلَى أَنْ تُشْعِلُوا مِنْهَا بِشُعْلَةٍ". فقال أبو طالب: والله ما كذب ابن أخي قط، فارجعوا راشدين.

وإن هذا ليبرهن على أن صلابة الداعية وثقته في الله عز وجل وفي دينه، وتعظيمه لأمر الأمانة التي يحملها ليلقي بآثاره وظلاله على من حوله، تلك الصلابة التي ما تبرح تنتقل انتقالاً طبيعيًّا من الداعية إلى أتباعه وإلى أحبابه ومقربيه بعد ذلك، حتى لكأنها قد انتقلت إلى أبي طالب وهو لم يؤمن.

فقد كان أبو طالب منذ البداية مذبذبًا، لكنه حين رأى إصرار رسول الله صلى الله عليه وسلم وثباته على موقفه هذا جعله يرد أهل الكفر ويأبى إجابة طلبهم، رغم أنه لا يرجو جنة ولا يخاف نارًا، فكيف الحال إذن بالمؤمنين.

ثم إن هذه الصلابة من الداعية - ولا شك - تؤثر سلبًا على أعدائه، فالعدو المدجج بالسلاح صاحب القوة والسلطان والتمكين حينما يرى داعية صلبًا، مستمسكًا بمبادئه وإسلامه فإنه ما يلبث يتزلزل كيانه ويتضاءل حجمه وينكمش أمام الداعية مهما كان في هيئته الخارجية ممكّنًا، وكلما رأيت العدو الذي أمامك يكثر من الحراسة والتحصينات والجيوش فاعلم علم اليقين أنه يخافك أكثر مما تخافه؛ فلا تهتز.

ومن هنا فقد باءت المحاولة السلمية الأولى لكفار قريش في تحييد أو تخويف أبي طالب بالفشل، واستمر الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته.
ثانيًا: استغلال الإعلام
محاولة سلمية أخرى وهي متكررة على مر الزمان استغلها كفار قريش، وهي تعني استخدام إعلام ذلك العصر بكل أنواعه، وتطويعه لوقف المد الإسلامي في مكة، وبطريقة شبه منهجية، وقد استخدم كفار قريش تلك الوسيلة من خلال محاور عدة:

المحور الأول: تشويه صورة الداعية أمام الناس:

وكان ذلك بمنزلة حرب إعلامية، كان قد قام عليها الوليد بن المغيرة وأبو لهب وغيرهم ممن هم على شاكلتهم، فقد كوّنوا تحالفًا مشتركًا من قبائل عدة يحدوهم هدف واحد، وهو حرب الإسلام، فهذا أبو لهب من بني هاشم، وذاك الوليد بن المغيرة من بني مخزوم، على ما كان بينهما من عداء ظاهر.

وفي مؤتمر كان قد ضمّ معظم الفصائل المكية، كان واضحًا أن الوليد بن المغيرة هو الذي يتزعمه؛ حيث قال:

يا معشر قريش، إنه قد حضر الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيًا واحدًا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولكم بعضه بعضًا.

فقالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأيًا نقول به.

فقال الوليد: بل أنتم قولوا، أسمع.

فقالوا: نقول كاهن.

فقال الوليد: ما هو بكاهن؛ لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكاهن وسجعه.

فقالوا: نقول مجنون.

فقال: ما هو بمجنون؛ لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو تخلقه ولا تخالجه ولا وسوسته.

فقالوا: نقول شاعر.

فقال: ما هو بشاعر؛ قد عرفنا الشعر برجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بشاعر.

قالوا: نقول ساحر.

فقال: ما هو بساحر؛ لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده.

وسبحان الله! لم يستطيعوا أن يتبنوا قرارًا من الممكن أن يلقى قبولاً من الناس، على علمهم التام بافترائهم ما يقولون؛ إذ إن نظْمه أعجزهم أن يصفوه بما هو ليس أهل له، وكان الأولى لهم أن يعترفوا بإعجازه، وبنبوة الذي أنزل عليه ويتبعوه، ومن ثم تكون النجاة لهم في الدنيا والآخرة، ولكن انغلقت عقولهم وأفهامهم، وصاروا كمن ينفخ في رماد.

فظلوا على كبرهم وعنادهم وقالوا:

فما نقول يا أبا عبد شمس؟!

فقال الوليد بن المغيرة:

والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق (النخلة)، وإن فرعه لجناة (ما يُجنى من الثمر)، وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول أن تقولوا: ساحر جاء بقول هو سحر، يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته.

فنزل فيه قول الله عز وجل: [ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ البَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ] {المدَّثر: 11- 26}.

فمن سنن الله عز وجل أن يقف الكافرون وهم يعلمون أن هذا حق - يقفون ويحاربون الدعوة بكل طاقتهم، وإنه ورغم هذا فإنهم لن يفلحوا في ذلك؛ لأن الله عز وجل يحاربهم بنفسه.

فقد كانت الإمكانات الإعلامية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أقل بكثير من إمكانات الكافرين، ومع ذلك كان أمر الدعوة يصل إلى الناس، وذلك لأنه كان يصدع بالحق، وشتان بين الحق والباطل، وهي رسالة إلى كل الدعاة: لا يحبطنك سطوة إعلام المحاربين لدعوة الله عز وجل [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ] {الأنفال: 59}.

المحور الثاني: تشويه الدعوة ذاتها:

عن طريق الإعلام أيضًا استهدف كفار قريش تشويه دعوة الإسلام، وذلك عن طريق الطعن في أصل الرسالة، وإشاعة القول بأنه يدعو إلى خرافة ليست حقيقة، فإذا لم يكن هناك اعتراض على شخص الداعية فهناك اعتراض على ما يأتي به الداعية، فكان الإعلام في مكة يضرب تارة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم أو في شخص الداعية، وتارة أخرى يضرب في صلب الرسالة أو في الإسلام.

فوصفوا ما أتى به صلى الله عليه وسلم بقولهم:

[إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظصلى الله عليه وسلمًا وَزُورً] {الفرقان: 4}. وقالوا: [أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً] {الفرقان: 5}.


مع كونهم يعلمون أنه أُمِّيٌّ لا يقرأ، ومع أنهم يعلمون سيرة حياته كلها، وأنه ما غادر مكة إلا قليلاً، وأنه في هذه المرات القلائل لم يكن يغادرها بمفرده، فكيف تعلم كل هذا العلم، وكيف أتى بهذا القرآن؟!

فقد وصف القرآن الكريم حالهم هذا بقوله سبحانه وتعالى عنهم: [وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ] {النحل: 103}.

وإضافة إلى ذلك أيضًا فقد عملوا على تشويه فكرة التوحيد، التي قد تلقي بأثرها على بعض العوام فقالوا: [أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ] {ص: 5}.

ومثل ذلك أيضًا عملوا على تشويه فكرة البعث [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي العَذَابِ وَالضَّلاَلِ البَعِيدِ] {سبأ: 7، 8}.

المحور الثالث: تشويه الدعوة نفسها:

كما قاموا أيضًا بتشويه أخلاقيات وطبائع هذا الدين، فأخذوا يشيعون عنه - على سبيل المثال - بأنه دين يفرق بين المرء وزوجه وبين المرء وأهله وهكذا، ولم يعلموا أنه ما جاء دين يجمع الناس ويوحد صفوفهم مثل دين الإسلام، دين يبغي توحيد الناس على أساس واحد متين، يستوي فيه أهل الأرض جميعًا وهو أساس العقيدة، وهذا ما كانت تأباه قريش.

وهكذا يفعل أهل الباطل دائمًا، يتهمون الإسلام في ذاته، وكما يشوهون صورة الداعية يشوهون صورة الدين، فنرى - مثلاً - من يلصقون به وبأتباعه تهمة الإرهاب وهو عنها بريء، وما جاء دين يدعو إلى الرحمة ونشر السلام كدين الإسلام.

كذلك يتهمونه بالجمود الفكري، وما جاء دين يدعو إلى التفكر وإعمال العقل كدين الإسلام، وأيضًا يتهمونه بالتخلف العقلي، وما جاء دين يدعو إلى التعلم والتفقه وعمارة الأرض كهذا الدين الخاتم.

المحور الرابع: إلهاء الناس بالباطل:

وهو محور غير مباشر إلا أن تأثيره كبير جدًّا، وهو يعني شَغلَ الناس بالباطل وإلهاءهم عن الحق بكل أشكاله.

فهم يعلمون أنه من الصعوبة على القلب المنشغل بالباطل أن يلتفت إلى دعوة إصلاحية أو إلى دعوة الحق، وأن غاية الصعوبة على الذي غرق في حياة اللهو والتفاهة والانحلال أن يهتم بدعوة جادة.

وهي خطة قديمة لأهل الباطل، فحواها أن يقدموا للناس فنونًا مختلفة من المُلهيات، فيعيشون فيها حتى لا يبقى لديهم وقت ولا عقل ولا قلب يدرسون فيه مثل هذا الدين.

ومن كفار قريش من التفت إلى هذه الحيلة الشيطانية، وتولى ما يسمى بالإعلام المضاد لدين الإسلام وهو النضر بن الحارث لعنه الله، فقد قام بإعلام مضاد وبصورة غير مباشرة، حيث إنه لم يطعن مباشرة في دين الإسلام، لكن فقط عمل على تقديم مشهيات وملهيات للناس تشغلهم في يومهم وليلهم ونومهم وسباتهم.

وقف النضر بن الحارث يحدث قريش عن خطته فقال:

يا معشر قريش، والله لقد نزل بكم أمر ما أوتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلامًا حدثًا أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثًا وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر. وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن. وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر. وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون. يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم؛ فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم.

وهي مشكلة كبيرة عادة ما يقع فيها الذين يصدون الناس عن الدعوات الإصلاحية وبالأخص عن الإسلام، فإن الدعاة إلى الله عز وجل عادة ما يكونون على صورة طيبة تفوق بكثير صورة أهل الباطل، من صفات الصدق والأمانة وأدب المعاملة والمروءة وحسن المنطق، مما يجعل من الصعوبة بمكان أن يقبل الناس طعنًا في شخص الداعية، وقد يكون من الصعوبة أيضًا أن يقبلوا طعنًا في الرسالة، التي تتوافق مع فطرة الناس جميعًا، إذن فليكن الإلهاء عن الحق هو السبيل الذي لا فكاك منه ولا بديل عنه.

وما كان من أمر فقد قطع النضر بن الحارث لأكثر من أربعمائة وألف كيلو متر حيث الحيرة في العراق، وحيث البلاد الأجنبية التي يتعلم فيها فنًّا جديدًا على الناس، يستطيع به أن يلهي شعب مكة عما هم بصدده.

ذهب النضر بن الحارث إلى هناك، وبذل المال والوقت والجهد والفكر، للصد عن سبيل الله، ولنشر الإباحية والمجون [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] {الأنفال: 36}.

وفي الحيرة أخذ النضر بن الحارث يتعلم أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسفنديار، أخذ يتعلم أساطير فارسية، حكايات وروايات وقصص، تحمل كلها عوامل التشويق والإثارة وجذب الانتباه، وفيها تنشيط للشهوات وإباحية أحيانًا وغموض وتنطع أحيانًا أخرى، وصراع في أحيان ثالثة، ورومانسية في أحيان رابعة، وهزل وضحك أحيانًا خامسة، وهكذا فيها ما يوافق كل ذوق.

وإلى مكة عاد النضر بن الحارث بهذا التنوير وبهذا التطور وبهذه الحضارة الجديدة؛ بغرض أن يرفع الناس في مكة إلى مستوى حضارات الفرس كما يزعم، ثم بدأ في حربه ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا جادًّا فيه الوقار وفيه ذكر الله وترغيب في جنته وترهيب من ناره، جلس على مقربة منه النضر بن الحارث يحدث بحديثه الهزلي، يمتّع الناس بروايته ويقول: والله ما محمد بأحسن حديثًا مني.

وفي جهد يحسد عليه لم يكتفِ النضر بذلك، بل اشترى مطربات وراقصات، وكلما سمع أن رجلاً قد مال قلبه إلى الإسلام سلط عليه المطربات والراقصات يلهينه عن سماع دعوة الحق وداعي الإيمان، وكلما نشط رسول الله صلى الله عليه وسلم نشط النضر بن الحارث.

وقد نزل فيه وفي من على شاكلته قول الله عز وجل: [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] {لقمان: 6، 7}.

وهكذا ظل أهل الباطل يتواصون بهذا المنهج، وهو شَغل الناس باللهو والباطل، وبالأخص في مواسم الطاعة وفترات زيادة الإيمان، ولعلنا بذلك نفهم أحداثًا كانت قد خفيت على بعضنا.

- نفهم مثلاً النشاط الإعلامي الرهيب الذي يتضخم في شهر رمضان المبارك، ذلك التكدس الضخم للأعمال الفنية الملهية عن أي شيء جاد في الحياة اليومية، والملهية عن الدين وغير الدين، حيث برامج حافلة على مدار الأربع والعشرين ساعة، وقنوات أرضية وفضائية لا حصر لها.

ثم يأتي التنوع غير المسبوق في المعروض، وتأتي العروض الأُوَل من الأفلام والمسلسلات والمسرحيات والأغاني (فيديو كليب)، والرياضة والفوازير والبرامج الضاحكة، كل هذا في شهر رمضان، شهر الصيام والقيام والقرآن والزكاة والصدقة، والذي من المفترض أن يكون هو أكثر شهور السنة جدية وطاعة وقربًا من الله عز وجل.

فالطبيعي في هذا الشهر ألاّ يجد المؤمن وقتًا للأنواع المختلفة من العبادة والطاعة التي يريد أن يقوم بها، كما أنه من المفترض أن يكون قلب المؤمن فيه أكثر رقة واطمئنانًا وإيمانًا وقربة من الله تعالى، فالشياطين مصفدة، والمساجد ملأى، وأبواب البر والخير مفتوحة ومضاعف ثوابها، وأعوان الخير كثر.

وما كان من أمر فإن مثل هذه الثروة الإيمانية في قلب المؤمن لفتت أنظار أهل الباطل، فتحركوا بنشاط أكبر وجهد مضاعف في هذا الشهر الكريم، وهو أمر لم يعد يخفى على عاقل، وعلى أهل الإيمان أن يحذروا، فخطة وحيلة النضر بن الحارث القديمة ما زالت تتجدد وترى النور بين المسلمين.

- وأيضًا بموقف النضر بن الحارث نستطيع أن نتفهم ما فعله اليهود الآن في أرض فلسطين، فحينما شاهد اليهود تعاطفًا كبيرًا من الشعب مع الانتفاضة، وشاهدوا قربًا من الله تعالى، وشاهدوا عمليات استشهادية وإصرارًا على الجهاد، وشاهدوا دعاءً وتضرعًا وابتهالاً، عندما شاهدوا كل ذلك فكروا بعقل النضر بن الحارث، واستخدموا حيلته وطبقوا خطته، ولكن بطريقة عصرية.

فقد أذاعوا على كل المحطات في فلسطين أفلامًا إباحية جنسية مخلة، وذلك في كل فترات اليوم تقريبًا، ودونما اشتراك أو كلفة، فقد علموا أنه لو شُغل الشباب في هذا اللهو الباطل والحرام فلا شك أنهم سيبتعدون عن الله، وهم يعلمون أنهم لو ابتعدوا عن الله وعن نهج الإسلام فلا شك أنهم سيهزمون.

إذن فقد حارب النضر بن الحارث الإسلام بطريقة ما زالت تطبق إلى يومنا هذا، وستظل تطبق إلى يوم القيامة، وصدق الله العظيم إذ يقول: [أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ] {الذاريات: 53}.
ثالثًا: الحرب النفسية
كغيرها من الوسائل التي اتبعوها في حرب الإسلام فقد شن كفار قريش حربًا نفسية على المسلمين حتى لا يشعروهم براحة أو يقر لهم قرار، وقد تمثلت هذه الحرب في أشكال ضغوط نفسية من قبل الأهل والأقارب على أبنائهم وذويهم حتى يتركوا الإسلام، فاجتمع أهل الكفر وأعلنوا في مكة أنه على كل أب وعلى كل أم وعلى كل شيخ قبيلة أن يتصدى لأبنائه وذويه ممن اتبعوا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -.

وذلك - كما يرون - من أجل مصلحة الابن الذي خرج عن دين الآباء، وأيضًا من أجل مصلحة الأب حتى يظل محتفظًا بمكانه في مكة، وقد كانت لهجة أهل السلطان في مكة تحمل تهديدًا خفيًّا وأحيانًا صريحًا.

وكان ممن حورب بذاك السلاح النفسي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقد حاولت أمه أن تثنيه عن الإيمان بكل طرق الترغيب والترهيب، ولكن محاولاتها باءت بالفشل.

فلجأت إلى وسيلة جديدة معتقدة أنه لن يجدي مع ذاك الابن الذي فارق دين الآباء غيرها، فأعلنت الإضراب عن الطعام والشراب حتى يرجع سعد - رضي الله عنه - عن دينه، حرب وضغط نفسي كبير على ذلك الشاب الذي لم يجاوز العشرين ربيعًا، ورغم ذلك فقد ثبت رضي الله عنه، ووقف أمامها وقد أشرفت على الهلاك يقول لها في يقين وإصرار: تعلمين والله يا أمّه لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني هذا لشيء، فكلي إن شئت أو لا تأكلي!

وأمام هذا الإصرار النابع من إرادة داخلية جادة، وليس فقط مجرد إعلان التحدي، أو مجرد رد فعل طبيعي أكلت الأم وبقي سعد رضي الله عنه مسلمًا.

ومثل موقف سعد رضي الله عنه كان موقف مصعب بن عمير رضي الله عنه، فقد استخدمت معه أمه هذا الضغط النفسي أيضًا في محاولة يائسة منها لتثنيه عن موقفه من الإيمان بالله ورسوله.

وكان مصعب رضي الله عنه من أنعم فتيان قريش، فقد كانت أمه ذات ثروة وغنى، وقد وفرت له من أسباب الرفاهية والتنعم في مكة ما لم يتوفر لغيره من الفتيان، فكانت تأتي له بالعطر من الشام، والملابس من اليمن.

وحين آمن منعت عنه كل ذلك، واضطرته إلى حياة الكد والتعب والخشونة، بل وطردته من بيتها معتقدة أن مثل هذا سيجدي معه.

وعلى هذا الحال الذي لم يكن معتادًا عليه ظل مصعب بن عمير ثابتًا على موقفه من الإيمان، حتى لقد تخشف جلده مثل تخشف الحية، وكان الصحابة يبكون لحاله التي صار عليها.

وقريب من ذلك أيضًا ما حدث مع عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد كان عمه يلف حوله الحصير ثم يشعل النار من تحته حتى يكاد يختنق، ل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
قصة الاسلام الجزء3
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» التطور الجزء3
» قصة الاسلام الجزء6
» قصه الاسلام
» قصة الاسلام الجزء5
» قصة الاسلام الجزء6

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات حجازة التعليمية :: الركن الدينى :: الحديث الشريف والسيره النبويه-
انتقل الى: