منتديات حجازة التعليمية
ضيفنا الكريم
حللت أهلاً .. ووطئت سهلاً ..
أهلاً بك بين اخوانك واخواتك
آملين أن تلقى المتعة والفائدة معنا
حيـاك الله
نتمنى أن نراك بيننا للتسجيل
مع خالص التحية بدوام الصحه والسعاده
ادارة منتديات مدرسة حجازةالثانوية المشتركة
منتديات حجازة التعليمية
ضيفنا الكريم
حللت أهلاً .. ووطئت سهلاً ..
أهلاً بك بين اخوانك واخواتك
آملين أن تلقى المتعة والفائدة معنا
حيـاك الله
نتمنى أن نراك بيننا للتسجيل
مع خالص التحية بدوام الصحه والسعاده
ادارة منتديات مدرسة حجازةالثانوية المشتركة
منتديات حجازة التعليمية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
البوابةالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 قصة الاسلام الجزء4

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
اسامه جاد
مشرف سوبر
مشرف سوبر
اسامه جاد


ذكر عدد الرسائل : 3356
العمر : 53
العمل/الترفيه : معلم اول احياء وعلوم بيئه وجيولوجيا
نقاط : 13745
تاريخ التسجيل : 14/02/2009

قصة الاسلام الجزء4 Empty
مُساهمةموضوع: قصة الاسلام الجزء4   قصة الاسلام الجزء4 I_icon_minitimeالثلاثاء ديسمبر 15, 2009 7:37 pm

5-تربية الثّبات

في محاولات جادة لإيقاف المد الإسلامي بدأ كفار مكة يأخذون خطوات عملية ومتدرجة في سبيل ضمان تحقيق نتائج حاسمة وسريعة، كانت المرحلة الأولى من مراحلهم في صد الدعوة الإسلامية ووقف المد الإسلامي هي مرحلة المحاولات السلمية التي تحدثنا عنها في الفصل السابق، وأعقب المحاولات السابقة محاولات أخرى من نوع آخر تتناسب وطبيعة المرحلة الجديدة التي يعيشها المسلمون، خاصةً أنه ورغم ما تقدم كانت قد زادت حركة الدعوة في مكة، وقويت شوكة المسلمين وكثر عددهم نسبيًّا، وهنا شعر أهل الباطل أن الأمر من الممكن أن يتفلت من أيديهم، فأقدموا على تنازلات كبيرة للمسلمين.

مفاوضات ومساومات


أمام قوة ناشئة تكبر أمام أعينهم يوما بعد يوم، أقدم أهل الباطل في مكة على عقد مفاوضات ومساومات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في محاولة للالتقاء - كما يقولون - في منتصف الطريق، وكما يقول تعالى: [وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ] {القلم: 9} . فكان أن قدموا اقتراحين:


- الاقتراح الأول

وهو اقتراح سفيه جدًّا من حكماء قريش، طالبوا فيه بعمل عبادة مشتركة، فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرًا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه!!


ويُعدّ هذا مفهومًا مغلوطًا تمامًا عن الألوهية والعبودية، وتفكير طفولي وسطحي ساذج من حكماء قريش؛ إذ يعني أن نعبد عشرة أو عشرين إلهًا، لعل الصحيح أن يكون من بينهم!


- الاقتراح الثاني

وكان على ذات المستوى من السطحية، وقد تقدم به بعض المشركين يريد أن يكون هناك ما يسمى بعبادة التناوب.


وهذا يعني أن يعبدوا إله محمد - صلى الله عليه وسلم - عامًا، ثم يعبد هو إلههم عامًا آخر وهكذا. وهنا نزل قول الله عز وجل يقطع الطريق تمامًا على مثل هذه المفاوضات الطفولية: [قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ (1) لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ] {الكافرون: 1- 6}.


وهي المرة الوحيدة التي خاطب فيها الله عز وجل الكافرين بقوله: (يا أيها الكافرون)؛ وذلك ليقطع السبيل تمامًا على كل كافر من شأنه أن يساوم المؤمنين على أمر العقيدة، ومن ثَمَّ فقد أغلق الباب تمامًا على هذه المفاوضات الهزلية.



--------------------------------------------------------------------------------

انظر: تهذيب سيرة ابن هشام 1/105.

سلاح الضعيف والتنكيل بالمؤمنين


بعد ما سبق لم تجد قريش إلا أن تلجأ إلى السلاح المعتاد في أيدي أهل الباطل، وهو ملجأهم ومفزعهم حين يجدوا صلابة في الصف المؤمن، إنه سلاح الإيذاء والتعذيب والتنكيل.


ولا شك أن هذا السلاح هو سلاح الضعفاء، وليس كما يظن البعض أن القوة كما هي ظاهرة في أيديهم وأنهم أقوى من المسلمين؛ إذ إنهم يخفون وراء سيوفهم ووراء سِياطهم يخفون ضعفًا شديدًا في نفوسهم، يخفون ضعفًا في العقيدة، وضعفًا في الإيمان، وضعفًا في الحجة والبرهان، وضعفًا في الحكمة والرأي، وضعفًا في الضمير، وضعفًا في الأخلاق.


وإن سلوك التعذيب والبطش والظلم والإجرام هو منطق من لا منطق له، ولا نتخيل - مجرد التخيل - كيف لإنسان - أي إنسان - أن تقبل نفسه أو تقبل فطرته أن يرى إنسانًا يعذب أمامه، أو يشارك هو في تعذيبه، أو يأمر هو بتعذيبه! كيف انحطت البشرية إلى هذا المستوى المتدني من فساد الفطرة؟!


إن الإنسان السويّ يكاد ينخلع قلبه حين يرى حيوانًا يتألم، فكيف بالإنسان؟!


كيف لإنسان أن يصلب إنسانًا ثم يلهب ظهره بالسياط؟!


كيف لإنسان أن يحبس إنسانًا بلا جريرة ولا ذنب؟!


وإذا كان الإسلام قد حرّم على الإنسان أن يحبس هرة، فكيف بحبس الإنسان مع ما يترتب على ذلك من تداعيات خطيرة في المال والأهل والولد نتيجة هذا الحبس الجزافي الجائر!!


وقد حرم الإسلام على الإنسان أن يقذف طائرًا بحصاة قد لا تؤثر فيه لدرجة القتل؛ وذلك لما في هذا من تعذيب للطائر، وحرم الإسلام على الإنسان أن يشق على الحيوان في ذبحه؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ".


هذا مع الحيوان الذي يذبح، فكيف بمن يصلب إنسانًا ثم يُلهب ظهره بالسياط؟!


كيف بمن يُطفئ في جسد إنسان أعواد وأسياخ النار؟!


كيف بمن يقلع أظافر إنسان وهو ينظر إليه، عينُه في عينِه؟!


كيف بمن يحبس إنسانًا أيامًا وشهورًا بل وسنوات، مع كل ما يترتب على ذلك من أحداث وآلام لأسرته (زوجته وأولاده وأمه وأبيه) بلا جريرة ولا ذنب إلا كما قال الله عز وجل: [وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ] {البروج: 8}.


ومهما كان من أمر فقد قست قلوب الكافرين وانطلقوا يفترسون المؤمنين والمؤمنات في نقطة سوداء في تاريخ البشرية كلها، حدثت في مكة وتتكرر اليوم وإلى يوم القيامة، يصدق فيهم قوله تعالى: [ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً] {البقرة: 74}.


بلال وأَحدٌ أحدٌ، كان ممن تلظى بسلسلة مضنية من التعذيب وعلى يد أمية بن خلف. بلالُ بن رباح رضي الله عنه، حيث ذاق تعذيبًا بدنيًّا ومعنويًّا لا يكاد ينقطع.


- كان أمية بن خلف يضع في عنقه حبلاً، ثم يأمر أطفال مكة أن يسحبوه في شوارعها وجبالها، حتى كان يظهر أثر الحبل في عنقه.


- كان أيضًا يمنع عنه الطعام حتى يكاد يهلك جوعًا.


- وكان يأخذه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على الصخور والرمال الملتهبة في صحراء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة لا يقوى على حملها إلا مجموعة من الرجال، فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى.


ألم، وجراح، ودماء، وفي ذات الوقت كان من بلال صبر، وعزم، ويقين، بل وأمل في أن هذه - ولا شك - دورة سريعة من دورات الباطل، لا محالة تسلم الراية بعدها وفي النهاية للمؤمنين.


كانت توجعات وآهات بلال في كل ذلك ليست إلا: أحدٌ أحدٌ.


وحين سُئل: لماذا هذه الكلمة بالذات؟! أجاب: لأنها كانت أشد كلمة على الكفار، فكان رضي الله عنه يريد أن يغيظهم بها.


وفي صبر عجيب ظل بلال رضي الله عنه في هذا التعذيب حتى اشتراه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم أعتقه بعد ذلك.


ومرت الأيام ونُسي الألم، ولكن بقي الأجر، فكانت قاعدة: يذهب الألم ويبقى الأجر إن شاء الله.


صبرًا آل ياسر

كان ياسر وزوجه سمية - رضي الله عنهما - والدا عمار بن ياسر رضي الله عنه، قد دفعهما القدر لأن يقعا تحت يدي رأس الكفر نفسه، أبي جهل لعنه الله، فعذبهما أبو جهل تعذيبًا شديدًا، وقد زاد العذاب وتجاوز الأمر الحدود حتى وصل إلى إزهاق أرواحهما، فقُتل ياسر، وقُتلت سمية رضي الله عنهما، قُتِلا في بيت الله الحرام جرَّاء التعذيب والتنكيل.


ما ذنبهما أن يعذبا حتى تزهق أرواحهما؟! بأي ذنب قتلا؟!


أريد أن يجيبني كل من سَلّح يده بكرباج أو سياط، ما ذنبهما؟! ما جريرتهما؟!


اللهم ليس إلا [أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ] {النمل: 56}.


ومن أرض مكة إلى روضة من رياض الجنة كان قد طمأنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ".


ستمر الأيام سريعًا، وستمر أيام القبر، قُتل ياسر وقُتلت سمية، ومن بعدهما قُتل أبو جهل، وترى من الفائز في النهاية؟ القاتل أم المقتول؟


سيأتي يوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين، في هذا اليوم سيأتي كل الذين عذبوا المسلمين على مر العصور، يغمسون غمسة واحدة في نار جهنم، من بعدها بل وفي أثنائها سيكتشف هؤلاء الهمجيون - أمثال أبي جهل وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة، وغيرهم ممن سار على نهجهم - أن العذاب الذي جربوه في الدنيا على غيرهم على عظمه ليس إلا أمرًا يسيرًا هيّنًا، بل لا يكاد يعدل شوكة.


غمسة واحدة في نار جهنم ستنسيهم سعادة الدنيا جميعًا، فما البال بالخلود! وما الخطب بالعذاب المقيم في جهنم!


وفي نفس الوقت سيأتي بلال وياسر وسمية ومن سار على نهجهم، والذين عُذبوا في سبيل الله، سيأتي هؤلاء ويغمسون غمسة واحدة في الجنة وسوف ينسون شقاء الدنيا كلها.


أي جهل وغباء وحماقة يعاني منه أولئك المعذِّبون لغيرهم؟!


[أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ] {المطففين: 4، 5}.


[أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ] {المؤمنون: 115}.


في أي شرع، وفي أي ملة، وفي أي قانون يُعذب الإنسان للاعتراف بشيء ما، سواءٌ أكان فعله أم لم يفعله؟


لكن هذا ما كان يحدث في مكة، وهذه هي سنة الحياة.


خباب بن الأرت، وظهر مليء بالحُفَر

صورة مشرقة أخرى من صور الصبر على التعذيب، كان قد رسمها خباب بن الأرَتّ رضي الله عنه. فقد كان المشركون يجرونه من شعره رضي الله عنه، وكانوا يضعونه على الفحم الأحمر الملتهب، ثم يضعون الصخرة العظيمة على صدره حتى لا يستطيع أن يقوم.


وظل رضي الله عنه على هذا الحال حتى صار ظهره مليئًا بالحفر من الفحم الملتهب الذي كانوا يطرحونه عليه.


صبر خباب وتحمل وما بدَّل وما غيَّر؛ فالطريق طويل وشاق، ولكن يذهب الألم ويبقى الأجر إن شاء الله.

سنن الله عز وجل


مثل ما سبق وكما حدث مع سمية حدث أيضًا مع زِنِّيرة والنهدية وابنتها وأم عبيس، رضي الله عنهن أجمعين. وقد تحولت مكة إلى سجن كبير تهان فيه الإنسانية، ويرتع فيه وحوش الكفر.


وهنا يبرز سؤال يكاد يكون ملحًّا: ألم يكن ممكنًا أن يؤمن أهل مكة جميعًا ولا تحدث مثل تلك المجازر الضارية كتلك التي حدثت، ولا يعذب المؤمنون هذا التعذيب الشرس؟


إن الله قادر على نصر المؤمنين دونما ألم، وقادر على هداية الناس أجمعين، فلماذا إذن هذا الإيذاء الوحشي؟


وحقيقة الأمر أن هناك سنتين من سنن الله عز وجل تبرزان أمام أعيننا عند الإجابة على هذا السؤال.


السُّنَّة الأولى:

هي أن حرب الحق والباطل حرب حتمية، بمعنى أنه لا يوجد زمان يختفي فيه الباطل كُلِّيَّةً، ويصبح الحق مُمكّنًا دون منازع.


وهي سنة من سنن الله عز وجل، يقول تعالى: [هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] {التغابن: 2} .


ويقول أيضًا: [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ] {هود: 118}.


فمهما فعل الدعاة، ومهما بذلوا من جهد، ومهما أتقنوا الإبلاغ، سيظل هناك كافرون ومحاربون للدعوة.


مهما تغيرت الظروف، ومهما تغيرت الأزمنة، ومهما تغيرت الأمكنة سيظل هناك صدّ عن سبيل الله، وإذا فقه الدعاة هذه السُّنة فإنهم سيستريحون؛ لأنه لن تكون هناك مفاجأة، وإذا كان الأمر متوقعًا فإن الإنسان لا يصيبه الإحباط، بعكس من ينظر إلى الأمور بنظرة مثالية وردية غير واقعية؛ فإنه عندما يرى الناس يخالفون وينحرفون فإن ذلك سرعان ما يحبطه، فيدخله اليأس والفتور، وهذا داء خطير يصاب به كثير من المسلمين.


السُّنة الثانية:

وهي أن المؤمنين جميعًا سيبتلون، ولن ينجو أحد من هذا الأمر، ستبتلى الأمة المؤمنة بصفة عامة، وسيبتلى كل فرد من أفراد الأمة المؤمنة بصفة خاصة، ولن يكون هناك استثناءات،


يقول تعالى: [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ] {العنكبوت: 2، 3} .


ويقول أيضًا: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ] {البقرة: 214} .


ويقول عز وجل: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] {آل عمران: 142} .


بل إنه كلما زاد إيمان المرء زاد بلاؤه واختباره؛ وقد روى الترمذي في ذلك عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟ قَالَ: "الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ، فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ". قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

الحكمة من الابتلاء


إذا كان لا بد من الابتلاء، وإذا كان لا بد من الفتنة فما هي الحكمة من وراء كل ذلك؟ لماذا اقتضت سنة الله أن يُبتلى المؤمنون؟


وفي معرض الإجابة على هذا السؤال، فإن هناك ثلاثة أسباب:


السبب الأول: التنقية:

ويقصد بها تنقية الصف المسلم، وانتقاء أصلح العناصر لحمل الأمانة؛ فما أسهل أن يقول المرء بلسانه آمنت وصدقت وأيقنت، لكن ما أصعب العمل!


فلا بد من اختبار لصدق الكلام، ولا بد من الابتلاء لتنقية الصف المسلم من المنافقين، مصداقًا لقوله تعالى: [وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ] {العنكبوت: 3}.


السبب الثاني: التربية:

فالله سبحانه وتعالى يريد لهذه الأمة أن تقود العالمين، وحمل الأمانة بحاجة إلى رجال من نوع خاص، تمرسوا على شتى أنواع المصاعب. وقيادة العالمين تحتاج إلى طراز فريد لا يهتز أمام العواصف ولا يرضخ أمام الأهوال.


والابتلاء يربي الصف المؤمن فيجعله يُعلي قدر الله ويستهين بأعدائه، حيث الابتلاء برنامج تدريبي متدرج للمؤمنين، يرتفع بمستواهم يومًا بعد يوم، وكلما عظمت مهام المؤمن ازداد بلاؤه فيزداد إعداده، تمامًا مثل الذهب حين توقد النار من تحته، فإنه سرعان ما يخرج أنقى مما كان.


وإن هذا ليرفع كثيرًا من قيمة الدعوة في عين المسلم، فعلى قدر تضحيته يُقدّر الشيء الذي يُضحي من أجله.


السبب الثالث: التزكية:

وهي التطهير من الذنوب والخطايا، فالابتلاء يُكفر الذنوب ويرفع الدرجات، وأحيانًا يحب الله عبدًا ويريد أن يرفعه إلى درجة عالية، وهذه الدرجة لا يبلغها بعمله، فيكون أن يبتليه الله عز وجل فيصبر فيبلغ الدرجة العالية.


وقد روى البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ (تعب) وَلاَ وَصَبٍ (مرض) وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ".

وسائل زرع الصبر في قلوب المؤمنين

الوسيلة الأولى: تعظيم قدر الله عز وجل


فإن من عظُم قدر الله عز وجل في قلبه فمن غير الممكن أن يهمه أي ألم قد يمر به، ومن هنا تحدث القرآن المكي كثيرًا على تعظيم قدر الله عز وجل، فتحدث عن صفاته سبحانه وتعالى، وجبروته وعظمته وقدرته.


تحدث القرآن عن أن الله عز وجل بيده كل شيء، وأنه لو كان سيصيبك بضرٍّ فلا بد أن يصيبك، ولو اجتمع أهل الأرض آنذاك لحمايتك فلن ينفعوك، وعلى العكس من ذلك فلو أراد الله عز وجل لك رحمة فلا بد أن تحصل لك، حتى ولو اجتمع أهل الأرض على أن يمنعوها عنك.


يقول عز وجل في سورة الأنعام، وهي مما نزل في مكة: [وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {الأنعام: 17}.


فمن يصدق بهذه الكلمات سيعلم أن نصيبه من الألم لن يفوته، وأنه سيأخذه حتمًا ولا محالة؛ لأن الله عز وجل هو الذي أراد أن يقع ذلك الألم، يقول تعالى: [وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ] {الأنعام: 18}.


وقد كتب الله على كل منا نصيبه من الألم، سواءٌ أكان ظالمًا أم مظلومًا، وسواء أكان كافرًا أم مؤمنًا، وإن لم يأخذ نصيبه هذا تعذيبًا في سبيل الله، فحتمًا سيأخذه شيئًا آخر، كمرض أو هَمٍّ أو غيره، يقول تعالى: [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ] {البلد: 4}.


ومن الممكن أن يكون نصيبه من الألم معنويًّا، وأحيانًا يكون هذا الألم المعنوي أشد بكثير من الألم المادي، كمن أصيب - مثلاً - بولد فاشل، أو مدمن للمخدرات، أو لص، أو عاق لوالديه، أو معدوم التربية والأخلاق. أو من أصيب بزوجة وقد جعلت حياته ضنكًا وجحيمًا لا يطاق، حتى وإن كان يُظهر أمام الناس أنه سعيد أو ممكّن في الأرض، فكل الناس يشعرون بالألم، يقول تعالى: [إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا] {النساء: 104}.


فالمسلم يُبتلى ويعذب كل هذا التعذيب، ثم هو يصبر عليه لأنه ينتظر في النهاية جنة ونعيمًا، أما الظالم فإنه يعذب في الدنيا وبالطريقة التي أرادها له سبحانه وتعالى، وفوق ذلك فهو ينتظر في آخرته أيضًا جهنم وعذابًا أليمًا!


ومن هنا فحين يعظم المؤمن قدر الله سبحانه وتعالى، فإنه - لا شك - ستهون عليه التضحية في سبيله، وأول شيء يجب معرفته لتعظيمه سبحانه وتعالى هو أن نعلم أن كل شيء بيده، وأن كل ما قدره عز وجل لا بد أن يحدث، سواءٌ أكان ميسرة ونعمة أم مشقة ونقمة.


ولنتأمل جيدًا هذه الآيات المكية، يقول تعالى: [قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لاَ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ] {الأنعام: 19}.


ويقول أيضًا: [وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الحَقِّ أَلاَ لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ] {الأنعام: 59- 62}.


ويقول أيضًا: [وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحَقُّ وَلَهُ المُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ] {الأنعام: 73}.


ولننظر إلى ذلك الصحابي الذي يستمع إلى هذه الآيات وأمثالها، فيعلم أن هذا الإله الذي له هذه الصفات يقف بجواره، ويبارك خطواته، ويرعاه ويحفظه، ويعلم تمام العلم ما يحدث للمؤمنين من تعذيب، ثم هو يؤجل هلكة الكافرين لحكمة، ويؤجل نصرة المؤمنين لحكمة أيضًا يعلمها.


لننظر إلى ذلك الصحابي وهو يقرأ ويعي قوله تعالى: [وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ] {الزُّمر: 67}.


كم من المرات قرأنا هذه الآية أو استمعنا إليها، لكن تُرى كم من المرات عشنا فيها ووعيناها؟!


نتخيل أن الأرض بكاملها في قبضة الله عز وجل، الأرض بكاملها، بما عليها من بشر ومخلوقات أخرى، وما عليها من طائرات ودبابات وبوارج، وما عليها من أسلحة نووية وكيميائية وبيولوجية، وما عليها من أناس يخططون ويدبرون ويكيدون.


ولنلاحظ لفظة (قبضته) وما تلقيه في القلب من رهبة وسيطرة، وقدرة وهيمنة وجبروت، هذا الإله الذي هو بهذه الصفة العظيمة هو إلهنا الذي نعبده، وأولئك الأقزام الذين يحاربون الدعوة يحاولون أن يخرجوا عن سلطانه وعن حكمه فكيف ذلك؟!


يقول تعالى: [يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لاَ تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ] {الرَّحمن: 33} .


ومن هنا فكلما عظُم قدر الله عز وجل في أعين وقلوب المؤمنين هانتْ عليهم صعاب الدنيا، وكلما استصغروا أعداء الله، وكلما تحملوا الأذى والتعذيب والتشويه، بل والموت، طالما هو في سبيل الله.

الوسيلة الثانية: رفع قيمة الآخرة


ويُعدّ هذا الأسلوب من أروع الأساليب في تربية الصف المؤمن على التحمُّل والجلد والصبر.


وهو توسيع لمدارك المسلم كي يعلم المقياس الحقيقي بين الدنيا بكل ما فيها من مصاعب ومشاق وألم وغيره، وبين الآخرة وما فيها من جنة ونعيم وخلود أبد الآبدين.


فأيُّ إنسان أحمق ذلك الذي يقدم على شراء الدنيا، حتى ولو أخذها كاملة - وهو يعلم أنها فانية - بالآخرة تلك الباقية التي لا تفنى ولا تزول؟!


فبيت القصيد هو أن يؤمن الإنسان بالآخرة، وبيت القصيد هو أن يدرك أبعادها المختلفة عن أبعاد الدنيا، ومقاييسها العجيبة وصفتها النادرة.


ولأهمية هذا الأمر فكثيرًا ما تجد في القرآن الكريم أن الله عز وجل ما إن يذكر الإيمان به إلا ويجمع معه الإيمان باليوم الآخر فقط.


فإذا أدرك الناس أن هناك يومًا سيحاسبون فيه على ما يعملون، وكان هذا علمًا يقينًا منهم، وإذا أدركوا أن الذي سيحاسبهم هو إله قادر عليم حكيم جبار قاهر، إذا علموا ذلك علمًا يقينًا فإنهم - ولا شك - سيعملون لهذا اليوم.


ومن هنا كانت أول كلمة قالها الرسول صلى الله عليه وسلم في بداية دعوته هي: "وَاللَّهِ لَتَمُوتُنَّ كَمَا تَنَامُونَ، وَلَتُبْعَثُنَّ كَمَا تَسْتَيْقِظُونَ، وَلَتُحَاسَبُنَّ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ، وَإِنَّهَا لَجَنَّةٌ أَبَدًا أَوْ نَارٌ أَبَدًا".


وإننا نعاني أحيانًا خللاً تربويًّا خطيرًا وهو عدم التركيز على رفع قيمة الآخرة في عيوننا وعيون المؤمنين، خاصة إذا كانت الدعوة مضطهدة، وإذا كان الظلم مستفحلاً، وإذا كان الأعداء كُثُرًا، وإذا كان الظلام شديدًا!


فلنلاحظ القرآن المكي، ولننظر كم يتحدث عن الآخرة وعن الجنة وعن النار، إذ لا تكاد تخلو سورة منه من التذكير باليوم الآخر، أو بالجنة أو بالنار.


ولنلاحظ تعظيم القرآن الكريم لليوم الآخر حين يقول سبحانه وتعالى: [إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا العِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (Cool بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ] {التَّكوير: 1- 14}.


وقوله تعالى أيضًا: [إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا البِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا القُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ] {الانفطار: 1- 5}.


ولنعش ولو قليلاً في تلك الجنة التي كانوا يعيشون فيها وهم ما زالوا على ظهر الدنيا، ولنتخيل وكأننا أحد الصحابة الذين يجلسون في بيت الأرقم بن أبي الأرقم يسمع هذه الآيات وبالخارج ينتظره تعذيب شديد، كم هو حجم مثل هذا التعذيب بالنسبة إلى ما يسمعه في وصف الجنة؟!


الواقع أنه لا شيء؛ فأيُّ ألمٍ يقارن بالخلود والنعيم، لا شك أنه يساوي صفرًا، يقول تعالى في وصف الجنة: [وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا] {الإنسان: 12- 22}.


ولنتخيل مؤمنًا يسمع هذه الآيات ويعيشها بقلبه، ثم يأتي عدوه ويحرمه جرعة ماء في يوم صائف، أو يجلده أو يصلبه أو حتى يقتله، فما الضرر في ذلك؟ أليس هو منتقلاً بالكلية من هذه الحياة بهمومها ومتاعبها إلى تلك الجنة العظيمة الخالدة؟!


وإذا سمعت كل آيات القرآن الكريم في مكة بهذا المفهوم، وبأذن ذلك الصحابي الذي يعذب، ستجد أن التعذيب ليس له قيمة تذكر.


لقد كان الموت خلاصًا للمؤمنين وراحة للصالحين؛ وذلك لأنهم يشتاقون إلى الجنة، ولا يصبرون طول البعاد عنها.


ومما سبق نستطيع أن ندرك ونتفهم أحداثًا عجيبة قد حدثت في سيرتهم رضوان الله عليهم، نستطيع أن نتفهم موقف عمير بن الحُمَام رضي الله عنه حين عد الدقائق التي سيأكل فيها التمر حياة طويلة، فألقاها من يده وذهب يستقبل الموت؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد ذكّره بالجنة التي يعرفها، والتي يشتاق إليها، وهنا أصبح الموت في سبيل الله غاية له.


ونستطيع أيضًا أن نتفهم أحداثًا قد تكون غريبة على أسماعنا، والتي كان منها - على سبيل المثال - موقف حرام بن ملحان رضي الله عنه حين طُعن بالرمح في ظهره فخرج من صدره، فقال من فوره: "فزت ورب الكعبة".


علم أنه قد فاز؛ لأنه سينتقل مباشرة من أرض الجهاد إلى الجنة، وعلم أنه فاز لأنه سيموت شهيدًا، وقد وُعد أن الشهيد يدخل الجنة بغير حساب.


ومن خلال هذا نعلم أن تعظيم قيمة الآخرة يُصَبر المؤمنين - لا محالة - على كل ألم، وعلى كل أذى، وعلى كل مشقة في سبيل الله عز وجل.


وعلى الجانب الآخر، ولكي تصبح التربية متوازنة والأمور لا إفراط فيها ولا تفريط كان الحديث عن النار، فبديل الجنة ليس عدم دخول الجنة فقط ولكن دخول النار.


ولما فقه الصحابة المؤمنون أمر النار وعلموا أنها خلق عظيم اجتهدوا في الابتعاد عنها والهروب منها، ثم إنهم لما أدركوا عذابها ولهيبها وحميمها، لما أدركوا كل ذلك هان عليهم كثيرًا ما يفعله المجرمون بهم؛ فتحملوا الألم المؤقت في دار الدنيا لينقذوا أنفسهم من الألم الدائم في دار الآخرة.


وهو تمامًا كما يقوم مريض الزائدة الدودية - مثلاً - بالسعي إلى إجراء عملية جراحية لاستئصالها، أليس في إجراء مثل هذه العملية كثير ألم؟ أوَليس في تكاليفها كثير إرهاق؟ أوَليس في الانقطاع عن العمل أثناء وبعد إجرائها كثير تعقيد؟!


غير أنه ورغم كل هذه الآلام فإنه بغيرها سيفقد المريض حياته، وهنا يعقد المريض موازنة يتحمل فيها تلك الآلام المؤقتة في مقابل الشفاء الدائم.


وهكذا أيضًا كان المؤمنون قد فقهوا أمر ما ينزل بهم، فكانوا يتحملون آلامًا قد يظنها البعض عظيمة، إلا أنها في نهاية الأمر غائية ومحدودة، بل وضئيلة جدًّا إذا ما قورنت بالعذاب الأليم والشديد في نار جهنم.


ومن هنا كان رفع قيمة الآخرة في أعين الصحابة وسيلة ربانية حكيمة في جعل المؤمنين يصبرون ويتحملون الأذى والعذاب الدنيوي.

الوسيلة الثالثة: دراسة التاريخ


من وسائل تربية المسلمين على الصبر وتحمل الأذى دراسة التاريخ؛ فالتاريخ يكرر نفسه، ودراسة التاريخ تعرض لك صورًا واقعية من الماضي لأناس عاشوا تقريبًا نفس الأحداث التي تعيش فيها الآن، ثم ترى كيف تعاملوا مع هذه الأحداث، وترى أيضًا كيف كانت النتائج النهائية.


فالأحداث والملابسات واحدة، حرب بين الحق والباطل، وعلو للباطل حينًا من الدهر وفترة من الوقت، يحدث فيها تعذيب وتشريد، وقتل وإبادة، ومن المؤمنين صبر وجلد وتحمل، ثم في نهاية الأمر انتصار للحق وتمكين له، وهزيمة للباطل وهلاك له، وهي صورة مكررة في كل صفحات التاريخ، وسنة من سنن الله عز وجل.


ومن جديد نرجع إلى القرآن المكي، فلا تكاد تخلو سورة من سوره من قصة أو إشارة إلى قصة من قصص المؤمنين السابقين مع أهل الباطل، وكيف صبروا على التعذيب والإيذاء، ثم كيف مُكّن لهم بعد ذلك.


كان من ذلك - على سبيل المثال - قصة موسى عليه السلام، وقد تناولها القرآن الكريم من أكثر من زاوية وبأكثر من طريقة، وبإشارات مباشرة وغير مباشرة.


وكان من ذلك ما جاء في قوله تعالى: [إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ] {القصص: 4}.


وهي درجة عظيمة جدًّا من الألم والإيذاء كان قد تعرض لها المؤمنون على يد فرعون، وهي بعدُ لم تحدث مع الصحابة، ثم يلي هذه الآيات قوله تعالى: [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ] {القصص: 5} .


ونفس أحداث السورة تتكرر، فإن كانت قد تكررت في مكة من قبل فهي تتكرر اليوم وإلى يوم القيامة، فإذا كان الصبر سيتكرر مع مثل هذه الأحداث فإن التمكين - لا محالة - سيتكرر؛ لأنه سنة من سنن الله عز وجل.


وكان من هذا القصص المكي أيضًا قوله تعالى حكاية عن قوم نوح عليه السلام: [كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ] {القمر: 9}.وقد حدث هذا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ] {القمر: 10- 15}.


وعلى هذا الغرار جاءت قصة هود ولوط وشعيب وصالح ويوسف وغيرهم، كل هذا في صورة واقعية حقيقية وبأسلوب شائق لا تمله النفوس، والله عز وجل أعلم بطبيعة خلقه وما يحتاجون إليه وما ينفعهم، وهو الذي اختار لهم هذا الأسلوب التربوي الرائع.


ومن هنا فإن دراسة وفقه التاريخ وتحليله أمر غاية في الأهمية؛ وذلك لتربية الصف المؤمن على الصبر والثبات، ولوضع يده (الصف المؤمن) على كل مفاتيح النصر الحقيقية.

الوسيلة الرابعة: زرع الأمل في النفوس


كانت الوسيلة التربوية الرابعة لتشجيع المؤمنين على الصبر وتحمل الأذى هي زرع الأمل في نفوسهم؛ فإذا ما أحبط الإنسان فلا أمل في صبره، ولا أمل في نصره، ولا أمل في تمكينه.


وفي القرآن المكي أيضًا نجد قوله تعالى: [وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ] {يوسف: 87}.


وقوله تعالى أيضًا: [قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ] {الحجر: 56}.


ومثله أيضًا: [اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] {الأعراف: 128} .


فالله سبحانه وتعالى لكي يُعلّم المؤمنين الصبر فإنه يريهم الأمل، ومن هنا نفهم موقف الرسول صلى الله عليه وسلم حين جاءه خباب بن الأرَتّ - رضي الله عنه - حين اشتد عليه التعذيب يطلب منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله لهم ليرفع عنهم البلاء.


يقول تعالى: [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ] {الأنبياء: 105}.


وإن نقطة الأمل هذه لهي من أهم النقاط التربوية في تربية المؤمنين على الصبر وتحمل المشاق والأذى، ومن هنا فلا بد أن يفرغ الدعاة أوقاتهم لزرع الأمل في قلوب الناس، وأن يربّوهم على مصداق قوله تعالى: [مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ] {الحج: 15}.


فليس للحياة قيمة إذا انقطع الأمل، وعلى هذا الضوء نتفهم غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما جاءه خباب بن الأرت - رضي الله عنه - يقول له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟!


وكان خباب رضي الله عنه قد فاض به، فقد عُذّب تعذيبًا شديدًا؛ إذ كان يُكوى رأسه بالنار، وكان يوضع على الفحم الملتهب، وقد يكون طبيعيًّا لرجل مر بهذه التجارب الأليمة أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه الدعاء والاستنصار برب العالمين، وهو يعلم أنه صلى الله عليه وسلم مستجاب الدعوة.


وإلى هذا الحد كان الأمر يبدو طبيعيًّا، لكن الذي حدث كان غريبًا جدًّا، فقد كان رد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير ما نتوقع.


فقد غضب الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بدا ذلك واضحًا على وجهه، يروي ذلك خباب - كما جاء في رواية البخاري - فيقول: فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محمر وجهه (أي غيّر من جلسته من شدة غضبه وقد احمرّ وجهه)، فقال:


"كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا االأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ".


وأمام غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لا بد لنا من وقفة تربوية مهمة؛ إذ من المؤكد أن غضبه صلى الله عليه وسلم لم يكن لمجرد طلب الدعاء، بل إن المؤمنين مطالبون بالدعاء في مثل هذه المواقف.


لكن الذي حدث هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شعر أن خبابًا - رضي الله عنه - قد بدأ يدخله اليأس، بدأ يحبط ويفقد الأمل، وإن فقدان الأمل لأمر خطير.


شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خبابًا يستبطئ النصر، بينما الأصل أن المؤمنين يعلمون أن الله عز وجل بيده النصر، ويأتي به في الوقت الذي يريده، ولحكمة يعلمها سبحانه وتعالى.


لكن غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرجه عن أسلوبه التربوي الراقي، بل أخذ يربي خبابًا، فسلك في سبيل ذلك أكثر من طريق.


الطريق الأول: التربية بالتاريخ:

ولا شك أن تربية التاريخ عظيمة الأثر، فقد ذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداثًا من التاريخ مر فيها المؤمنون بما هو أشق مما كان قد أصابه؛ وذلك أن الناس عادة ما تصبر على مصائبها وما ينزل بها إذا ما رأت أن غيرها قد ابتلي بما هو أشد منها وصبر على ذلك.


الطريق الثاني: زرع الأمل:

بعد المسلك الأول وتهوين الأمر، أخذ صلى الله عليه وسلم في زرع الأمل في قلب خباب رضي الله عنه؛ فأقسم بالله وبيقين كامل مؤكدًا يقول: "والله ليتمن هذا الأمر... " إلخ، وكانت النتيجة أن زاد صبر خباب رضي الله عنه، واطمأن قلبه بنصر الله عز وجل وتمكينه لدينه.


الطريق الثالث: التذكير بالله عز وجل والتعظيم لقدره:

وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يخاف إلا الله".


الطريق الرابع: الأخذ بالأسباب:

وذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: "والذئب على غنمه"، فليس معنى التوكل على الله عدم الأخذ بالأسباب، فما زالت السرية موجودة، وما زال الصبر موجودًا، وما زالت الدعوة إلى الله قائمة، وما زال انتظار التمكين يملأ القلوب. فالناس تعمل وتُربَّى في هذا الوقت، وترفع من درجات إيمانهم.


وكانت النتيجة أن خبابًا رضي الله عنه ثبت ولم يتزعزع، ولم يبدل ولم يغير، ثم لم يستعجل بعد ذلك، حتى إنه قد سأله عمر بن الخطاب رضي الله عنه عما لقيه في ذات الله تعالى، فكشف خباب عن ظهره فإذا هو قد برص (مات جلده) ففزع عمر بن الخطاب وقال: ما رأيت كاليوم. فقال خباب: يا أمير المؤمنين، لقد أوقدوا لي نارًا ثم سلقوني فيها، ثم وضع رجلٌ رِجْلَه على صدري فما اتقيت الأرض إلا بظهري، وما أطفأ تلك النار إلا شحمي.


فإذا بلغْت هذه الدرجة من الإيذاء فلا تستعجل، وكن صابرًا كخباب، وتذكر قوله تعالى: [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ] {القمر: 49، 50}.

وسائل أخرى معينة على الصبر


بعد هذه الوسائل الأربع من الوسائل المعينة على الصبر وتحمل الأذى، كانت هناك أيضًا وسائل أخرى كثيرة تعين على زرع الصبر في قلوب المؤمنين في زمن الاستضعاف.


وهي وسائل قد استخرجتها من أوائل السور التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، والتي علّمت الرسول وعلمت الصحابة كيف يصبرون على هذا الطريق الطويل، حيث يقول سبحانه وتعالى في سورة المدثر: [وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ] {المدَّثر: 7}. ويقول أيضًا في سورة المزمل: [وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً] {المزمل: 10}.


فكان منها ما يلي:


العلم والقراءة:

وذلك كما في الآيات الخمس الأُوَل من سورة العلق: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] {العلق: 1- 5}.


فمن يعرف أكثر لا شك أنه سيصبر أكثر، ويجب أن نعي أمرًا غاية في الأهمية، وهو أن القراءة ليست هواية كما يظن أو يعتقد البعض، إنما هي بالنسبة للمسلم كما الطعام والشراب؛ إذ لا حياة بدونهما.


ومن هنا فلكي تصبر يجب أن تتعلم، ولكي تتعلم يجب أن تقرأ، ومن غير القراءة فلن تُحصّل علمًا، وإن دروس العلم مهما كثرت فلن تعطيك غير جزء ضئيل من العلم الذي ينبغي عليك أن تحصله.


قيام الليل:

يقول تعالى: [قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً] {المزمل: 1- 4}.


فلن يستطيع أن يصبر من لم يتعود قيام الليل، ولهذا فُرض على الصحابة قيام الليل سنة كاملة، وحين نزل التخفيف لم يترك ذلك أحد منهم، فإذا أردت أن تصبر فلا بد أن تتعلم قيام الليل.


قراءة القرآن:

يقول تعالى: [وَرَتِّلِ القُرْآَنَ تَرْتِيلاً] {المزمل: 4}. فالقرآن زاد، ولا يستطيع المسلم أن يصبر بدون هذا الزاد.


الذكر:
يقول تعالى: [وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً] {المزمل: 8} . فالذكر أيضًا زاد، ولكي يصبر أي مسلم لا بد أن يذكر الله عز وجل، والذي نعته الله عز وجل بالكثرة فقال: [وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ] {الأحزاب: 35}. وقال أيضًا: [وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {الأنفال: 45}. فكلما كان ذكر الله سبحانه وتعالى كثيرًا، كان الصبر أكثر.


ترك المعاصي والذنوب:

يقول تعالى: [وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ] {المدَّثر: 5}. فكيف يصبر الغارق في أوحال المعاصي؟!


الأخوة في الله عز وجل:

يقول تعالى: [وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] {الكهف: 28}. فحين ترى أناسًا يسيرون معك في نفس الاتجاه فهذا سيعينك كثيرًا، ويقوي ظهرك على الصبر.


وبعد، فهذه كلها وغيرها أمور تعين على الصبر وتحمل الأذى، نعددها ثانية كما يلي:


1- تعظيم قدر الله عز وجل في القلب.

2- تعظيم الآخرة.

3- دراسة التاريخ.

4- زرع الأمل في نفوس المؤمنين.

5- العلم والقراءة.

6- قراءة القرآن.

7- قيام الليل.

8- الذكر.

9- ترك المعاصي والذنوب.

10- الأخوة في الله عز وجل.


فتلك عشرة كاملة، ليس هناك صبر بدونها، وكل منها يحتاج إلى دراسة جادة.

ما الحكمة من النهي عن القتال في مكة؟


أمام هذا الثبات وذاك الصبر، وأمام هذا التحمل العظيم للأذى الشديد يبرز سؤال مهم جدًّا قد يدور في ذهن الكثيرين، وهو: لماذا أمر الله عز وجل المسلمين بالكف عن القتال في مكة؟


لماذا تحمل المسلمون هذا الألم دون ردٍّ ودون تغيير؟ ولماذا لم يسمح لهم بالرد على الإيذاء وقد كان منهم من يستطيع ذلك؟


أليس في مثل هذا خنوع وسلبية؟!


وفي معرض الرد على هذا السؤال نذكر عدة أسباب، وقبل سردها نلفت الأنظار إلى حقيقتين مهمتين:


الحقيقة الأولى: أن هذا الكف كان أمرًا ربانيًّا مباشرًا، فقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ] {الحجر: 94} .


ومن هنا فمن المؤكد أن الخير كل الخير كان في هذا الإعراض، وأن الحكمة البالغة كانت تقتضيه، وحكمة الله عز وجل لا يحيط بها أحد، ولا يقدر على ذلك بشر، ونحن بطاقتنا المحدودة نبحث فيما نعتقد أنه الحكمة من وراء الكف عن القتال في مكة.


الحقيقة الثانية: أننا أُمرنا باتباع أوامر الله حتى مع عدم تبدي الحكمة لنا من وراء ذلك؛ فليس معنى أننا لم نجد بعقولنا حكمة مقنعة تسوغ لنا فرض هذا الأمر أن نقوم بمخالفته، يقول تعالى: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا] {الأحزاب: 36}.


وبعد وضوح هاتين الحقيقتين فيمكننا البحث في حكمة الكف عن القتال في مكة على الوجه التالي:


الحكمة الأولى:

البعد التربوي المهم في هذا الوضع، فلا شك أن هذه الصورة الجديدة على أرض مكة، وهي صورة التعذيب الشديد لطائفة من الناس على أيدي غيرهم، وقبول هذا الطرف المعذَّب لهذا الأمر دون ردّ، هذه الصورة الجديدة تربي في المؤمنين أمورًا من الصعب أن تُربى في ظروف غيرها، ومن هذه الأمور الصبر من نوع خاص.


فأنواع الصبر كثيرة، والعربي بصفة عامة صبور؛ إذ إنه يستطيع الصبر على آلام الجوع والحر والفقر وطول السفر، والصبر على الحروب وغيرها، وكل هذا حسن وحميد.


لكن العربي لا يصبر على تحمل الظلم؛ إذ إن طبيعته الثائرة لا ترضى بالضيم ولا بالجور، فتراه يثور ولو كان الثمن هو حياته نفسه.


أما الآن فقد أصبح من أهداف المؤمن أن يقيم أمة ودولة، ومن متطلبات بناء الأمة أن يكون البناء متدرجًا، وأن يمر بمراحل مختلفة، وألاّ ينظر الفرد إلى مصلحته الشخصية، بل يتعداها إلى مصلحة المجموع، وهذه كلها أمور ما كان للعربي أن يفكر فيها قبل ذلك.


فقد صار واجبًا عليهم عدم الالتفات إلى حظ النفس، وأن يتركوا الانتصار لذواتهم وذلك لصالح الأمة وصالح الجماعة، وهذه تربية على شيء جديد، وتحتاج إلى وقت وإلى صبر؛ إذ ليس من الممكن أن تقوم أمة أفرادها يقدمون مصالحهم الشخصية على مصالحها العامة.


ومن هنا فإن الكف عن القتال كان ضروريًّا من أجل أن يُربى المسلمون على هذا النوع المهم من الصبر، وهو الصبر على ضياع المصلحة الخاصة في مقابل إنجاح المصلحة العامة.


الحكمة الثانية:

التربية على مبدأ حُسن السمع والطاعة للقيادة، وهو أمر من الأهمية بمكان، ولا تكاد تقوم جماعة إلا به، ولا تكاد أمة تقوم إلا عليه، ذلك هو: الترب
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
قصة الاسلام الجزء4
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» قصه الاسلام
» قصة الاسلام الجزء6
» قصة الاسلام الجزء8
» قصة الاسلام الجزء6
» قصة الاسلام الجزء9

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات حجازة التعليمية :: الركن الدينى :: الحديث الشريف والسيره النبويه-
انتقل الى: