12-الهجرة إلى المدينة
بعد أن نجحت بيعة العقبة الثانية، وأصبح الأنصار يمثلون عددًا لا بأس به في المدينة المنوّرة، وَقبِلوا أن يستقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يحموه مما يحمون منه نساءهم وأبناءهم وأموالهم، بعد كل هذه الأمور العظيمة والتي حدثت في فترة وجيزة جدًّا، جاء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن له بفتح باب الهجرة لأصحابه إلى المدينة المنوّرة.
كل من يستطيع أن يهاجر فليهاجر، بل يجب أن يهاجر؛ الضعفاء والأقوياء، الفقراء والأغنياء، الرجال والنساء، الأحرار والعبيد، الكل يهاجر إلى المدينة.
هناك مشروع ضخم سيُبْنى على أرض المدينة، مشروع يحتاج إلى كل طاقات المسلمين، هناك مشروع إقامة أمة إسلاميّة، لا يُسمح لمسلم بالقعود عن المشاركة في بناء هذا الصرح العظيم، انظرْ إلى الآيات تتحدث عن الهجرة:
[إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا] {النساء: 97- 100}.
لم تكن الهجرة أمرًا سهلاً ميسورًا، ولم تكن كذلك ترك بلد ما إلى بلد آخر ظروفه أفضل، وأمواله أكثر، ليست عقد عمل بأجر أعلى، الهجرة كانت تعني ترك الديار، وترك الأموال، وترك الأعمال، وترك الذكريات، الهجرة كانت ذهابًا للمجهول، لحياة جديدة، لا شك أنها ستكون شاقة، وشاقة جدًّا. الهجرة كانت تعني الاستعداد لحرب هائلة، حرب شاملة، ضد كل المشركين في جزيرة العرب، بل ضد كل العالمين، الحرب التي صورها الصحابي الجليل العباس بن عبادة الأنصاري على أنها الاستعدادُ لحرب الأحمر والأسود من الناس.
هذه هي الهجرة، ليست هروبًا ولا فرارًا، بل كانت استعدادًا ليوم عظيم، أو لأيام عظيمة؛ لذلك عظّمَ الله من أجر المهاجرين:
[وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ] {الحج: 58، 59}.
صدر الأمر النبويّ لجميع المسلمين القادرين علي الهجرة أن يهاجروا، لكن لم يبدأ هو صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلا بعد أن هاجر الجميع إلي المدينة، لم يكن من همِّه صلي الله عليه وسلم أن ينجو بنفسه، وأن يُؤَمِّنَ حاله، بل كان كل همّه صلى الله عليه وسلم أن يطمئن على حال المسلمين المهاجرين. كان صلى الله عليه وسلم يتصرف كالرُّبَّان الذي لا يخرج من سفينته إلا بعد اطمئنانه على أن كل الركاب في أمان.
القيادة ليست نوعًا من الترف أو الرفاهية، القيادة مسئولية، القيادة تضحية، القيادة أمانة.
ملامح من هجرة المسلمين
نستطيع أن نلاحظ ملامح مهمة لهجرة المسلمين من مكّة إلى المدينة:
1- الاهتمام بقضية النية:
لماذا تهاجر؟
"إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى".
مع أن الهجرة للزواج ليست محرمة، ومع أن الهجرة لإصابة الدنيا الحلال ليست محرمة، لكن هذه هجرة ليست كالهجرة لبناء أمة إسلاميّة.
هيهات أن يكون الذي ترك كل ما يملك ابتغاء مرضات الله وسعيًا لإنشاء أمة إسلاميّة، ورغبةً في تطبيق شرع الله عز وجل في الأرض، كالذي عاش لحياته فقط، وإن كانت حياتُه حلالاً، إذن قضية النية لا بد أن تكون واضحة تمامًا، وخالصة لله تمامًا.
2- الهجرة الكاملة لكل المسلمين لم تكن إلا بعد أن أُغلقت أبواب الدعوة تمامًا في مكّة، ورأينا أن أبواب الدعوة قد أغلقت منذ ثلاث سنوات، بعد موت أبي طالب والسيدة خديجة رضي الله عنها، ومنذ ذلك التاريخ والرسول صلى الله عليه وسلم يخطط للهجرة، وكان من الممكن أن يكون مكان الهجرة مختلفًا عن المدينة لو آمن وفد بني شيبان أو بني حنيفة أو بني عامر، ولكن الله عز وجل أراد أن تكون الهجرة إلى المدينة المنوّرة، لكن المهم هنا في هذه النقطة ملاحظة أن الهجرة لم تكن نوعًا من الكسل عن الدعوة في مكّة، أو المَلَل من الدعوة في مكّة، أبدًا، الدعوة في مكّة من أول يوم وهي صعبة، ومع هذا ما ترك المسلمون بكاملهم البلد إلا بعد أن أُغلقت تمامًا أبواب الدعوة، أما إذا كانت السبل للدعوة مفتوحة ولو بصعوبة، فالأولى البقاء لسد الثغرة التي وضعك الله عز وجل عليها.
3- الهجرة كانت للجميع على خلاف الهجرة إلى الحبشة، والتي كانت لبعض الأفراد دون الآخرين، والسبب أن طبيعة المكان وظروفه تختلف من الحبشة إلى المدينة، المسلمون الذين هاجروا إلى الحبشة كانوا يريدون حفظ أنفسهم في مكان آمن حتى لا يُستأصل الإسلام بالكلية إذا تعرض المسلمون في مكّة للإبادة، ولم يكن الغرض هو إقامة حكومة إسلاميّة في الحبشة، بل كان المسلمون مجرد لاجئين إلى ملك عادل، أما الهجرة إلى المدينة فكان الغرض منها إقامة دولة إسلاميّة تكون المدينة هي المركز الرئيسي لها.
ولماذا تصلح المدينة لإقامة الأمة الإسلاميّة ولا تصلح الحبشة؟ إن هذا ليس راجعًا إلى عامل البعد عن مكّة واختلاف اللغة واختلاف التقاليد فقط، وإن كانت هذه عوامل مهمة، ولكن الاختلاف الرئيسي - في نظري - هو أن الاعتماد في الحبشة كان على رجل واحد هو النجاشي الملك الذي لا يظلم عنده أحد، فإذا مات هذا الرجل أو خلع فإن المسلمين سيصبحون في خطر عظيم، وقد كاد أن يحدث ذلك، ودارت حرب أهلية كاد النجاشي فيها يفقد ملكه، فما كان من النجاشي إلا أن يسَّر للمسلمين المهاجرين عنده سبيل الهروب، لا يملك لهم إلا هذا، وكان هذا هو أقصى ما يستطيع أن يفعله، فكان الوضع في الحبشة على هذا النحو.
أما في المدينة المنوّرة فالهجرة لم تكن تعتمد على رجل معين، بل تعتمد على شعب المدينة، أهل المدينة، أنصار المدينة، الجو العام في المدينة أصبح محبًّا للإسلام، أو على الأقل أصبح قابلاً للفكرة الإسلاميّة، ومن ثَمَّ كانت الهجرة إلى هناك هجرة جماعيّة كاملة.
4 - الهجرة لم تكن عشوائيّة، بل كانت بأمر القيادة إلى مكان معين، وهذا الذي أدى إلى نجاح الهجرة، وقيام الأمة، أما أن يهاجر فلان إلى مكان كذا، ويهاجر آخر إلى مكان كذا، ويتفرق المسلمون، فهذا وإن كان يكتب نجاة مؤقتة للأفراد إلا أنه لا يقيم أمة، وعلى المسلمين الفارِّين بدينهم من ظلم ما، أن يفقهوا هذا الأمر جيدًا، الهجرة النبوية إلى المدينة كانت هجرة منظمة مرتبة، أُعدّ لها بصبر وبحكمة وبسياسة وفقه، والعشوائية ليست من أساليب التغيير في الإسلام.
طبيعة الهجرة وطبيعة المهاجرين
أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أمره إلى المؤمنين بمكّة أن يهاجروا جميعًا إلى المدينة المنوّرة، فخرج المسلمون أفرادًا وجماعات إلى هناك، وبدأت المدينة المنوّرة تستقبل المهاجرين الذين فرّوا بدينهم من مكّة. وقصص المهاجرين كثيرة وعظيمة، ولكن أود الوقوف على أربع قصص فقط تكشف لنا عن طبيعة الهجرة وعن طبيعة المهاجرين:
القصة الأولى: قصة هجرة آل سلمة رضي الله عنهم أجمعين:
كان أبو سلمة بن عبد الأسد - رضي الله عنه - من أوائل من هاجر، كما كان رضي الله عنه من أوائل من أسلم، وكان هو وزوجته أم سلمة من قبيلة واحدة هي قبيلة بني مخزوم، ومع الشرف والمكانة والوضع الاجتماعي إلا أنهم تركوا كل ذلك، وانطلقوا إلى المدينة المنوّرة، ولكن بعد أن خرج الرجل وزوجته وابنهما سلمة لحقت بهم عائلة أم سلمة وقالوا لأبي سلمة: هذه نفسك غَلَبْتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نَتْرُكُك تسير بها في البلاد؟ فغلبوه على زوجته فأخذوها، وبالطبع ترك معها ابنهما سلمة، ثم انطلق هو وحيدًا رضي الله عنه إلى المدينة المنوّرة؛ امتثالاً لأمر الهجرة إلى هناك. أما السيدة أم سلمة رضي الله عنها فبعد أن هاجر زوجها جاء إليها أقارب زوجها، ومع أنهم من نفس القبيلة - قبيلة بني مخزوم - إلا أنهم قالوا: لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا. وجاء أقارب أم سلمة يدافعون عن الغلام الصغير، فأخذ الفريقان يتجاذبان الغلام حتى أصابوه بخلع في يده، ثم أخذه في النهاية أقارب أبي سلمة، وتركوا السيدة أم سلمة رضي الله عنها وحيدة في مكّة، لقد هاجر زوجها إلى المدينة، وأُخذ ابنها الوحيد منها، وبقيت بمفردها تحمل في قلبها كل هذه الآلام، فكانت رضي الله عنها تخرج كل يوم إلى الأبطح - حيث المكان الذي شهد مأساة التفريق بينها وبين زوجها وابنها - وتظل تبكي من الصباح إلى المساء، ثم تعود إلى بيتها آخر الليل، وظلت تفعل ذلك كل يوم، كم بقيت على هذه الحالة الأليمة؟!
لقد ظلت سنة كاملة أو قريبًا من سنة.
آلام رهيبة تحملتها السيدة العظيمة أم سلمة، وآلام رهيبة تحملها زوجها الجليل أبو سلمة وهو في ديار الغربة وحيدًا، وآلام رهيبة تحملها الطفل الصغير سلمة وهو معزول عن والديه، لا لشيء إلا لأنهما آمنا بالله رب العالمين، لكن هذا هو الطريق الطبيعيّ للجنة، وهذه هي الأثمان التي تشترى بها هذه الجنة.
"أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ".
وبعد عام رقَّ قلبُ رجل من بني عم أم سلمة لحالها، فذهب إلى أهلها وقال لهم: ألا تطلقون هذه المسكينة، فرّقتم بينها وبين زوجها وولدها. وما زال بهم حتى قبلوا، ثم ذهبت إلى أهل زوجها، فلما علموا أنها ستذهب إلى زوجها أعطوها الغلام، ورأت ابنها واحتضنته بشده بعد عام من الفراق، ثم ما استطاعت صبرًا على فراق زوجها، فما انتظرت أن يتوفر لها صحبة آمنة إلى المدينة، ولكنها أخذت ابنها سلمة، وانطلقت به بمفردها إلى المدينة، والمسافة تقترب من خمسمائة كم، ولكنها قررت أن تقطع كل هذه الصحراء في سبيل الله. وخرجت السيدة الكريمة أم سلمة مع ابنها تسرع في خطواتها إلى دار الهجرة، ولكن الله عز وجل الرحيم بعباده سخّر لها من يأخذ بها في صحبة آمنة من مكّة إلى المدينة، سخّر لها جنديًّا من جنوده، [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] {المدثر:31}. لقد سخّر لها رجلاً مشركًا، سبحان الله! رآها عثمان بن طلحة - وكان ما زال على شركه – وهي بالتنعيم على مسافة حوالي خمسة كيلو مترات من مكّة، فقال لها: إلى أين؟ فقالت: أريد زوجي في المدينة. قال: أوَمعك أحد؟ قالت: لا والله، إلا الله ثم ابني هذا. فتحركت النخوة في قلب الرجل المشرك، وأظهر مروءة عالية وقال لها: والله لا أتركك أبدًا حتى تبلغي المدينة. ثم أخذ بخطام ناقتها وانطلق يسحبها إلى المدينة وهو يسير على قدميه.
خمسمائة كيلو متر وعثمان بن طلحة يسير على قدميه ليصل بامرأة وحيدة من مكّة إلى المدينة، وهو لا يرتبط معها بصلة قرابة، وهي وزوجها على دين يكرهه ويحاربه، لكنها النخوة والمروءة. ولما وصلوا إلى قباء، قال عثمان لأم سلمة: زوجك في هذه القرية، فادخليها على بركة الله. فدخلت السيدة أم سلمة إلى المدينة، وعاد عثمان بن طلحة إلى مكّة ماشيًا دون أن ينتظر كلمة شكر أو ثناء من زوج السيدة أم سلمة أو أحد المسلمين.
والحمد لله أن الله عز وجل قد منَّ عليه بالإسلام في العام السابع من الهجرة، وإلا كنا قد حزنَّا حزنًا كبيرًا على بقاء مثل هذه الأخلاق الرفيعة في معسكر الكافرين.
القصة الثانية: هجرة صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه:
لم يكن صهيب رضي الله عنه من أهل مكّة، ولم تكن له قبيلة تمنعه، وكان يعمل بصناعة السيوف، وكانت هذه الصناعة تدر عليه مالاً وفيرًا، ثم جاء القرار بالهجرة، فقرر صهيب رضي الله عنه أن يترك تجارته، ويتجه إلى المدينة ليبدأ حياة جديدة هناك، وعند خروجه وقف له زعماء الكفر بمكّة، فقالوا له: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك. هنا يفكر صهيب رضي الله عنه، يقول في نفسه: ما قيمة المال ولو كان مال الدنيا، إن أنا خالفت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أنا تخلفت عن صحبة المؤمنين، وإن أنا تركت العمل لله عز وجل؟! وجد صهيب رضي الله عنه أن الثمن الذي سيدفعه زهيد للغاية بالقياس إلى ما سيحصله، لم يكن اختبارًا صعبًا على نفس صهيب، لقد قرر أن يشتري الجنة منذ زمن، وكلما مر عليه الوقت ازداد إصرارًا على قراره، قال لهم صهيب في بساطة: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟
هكذا في بساطة، يترك كل ثروته، وكل تعب السنين السابقة!
قالوا - وقد سال لعابهم لثروة صهيب الطائلة -: نعم.
قال صهيب: فإني قد جعلت لكم مالي. وأعطاهم كل ما يملك، وهاجر إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبلغ الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في يقين:
"رَبِحَ صُهَيْبٌ، رَبِحَ صُهَيْبٌ".
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم صهيبًا قال مبشِّرًا له ومهنِّئًا: "رَبِحَ الْبَيْعُ أَبَا يَحْيَى، رَبِحَ الْبَيْعُ أَبَا يَحْيَى". وفيه وفي أمثاله نزل قول الله عز وجل:
[وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ] {البقرة: 207}.
القصة الثالثة: قصة هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
وهي قصة مختلفة جدًّا عن هجرة بقية الصحابة؛ فبينما كان الصحابة عمومًا يهاجرون سرًّا هاجر عمر بن الخطاب رضي الله عنه جهرًا، لقد وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد الحرام وقال بصوت مرتفع:
يا معشر قريش، من أراد أن تثكله أمه، أو يُيَتَّمَ ولدُه، أو تُرَمَّل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي.
يقول هذا الكلام وهو متقلّد سيفه، وفي يده الأخرى عدة أسهم، فلم يخرج خلفه أحد. وهكذا هاجر عمر بن الخطاب رضي الله عنه علانية.
وهنا سؤال: لماذا هاجر عمر بن الخطاب رضي الله عنه جهرًا، بينما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه سرًّا كما سنرى بعد ذلك؟
الواقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرِّع، وسوف يتبعه في طريقته عموم المسلمين سواء في زمان مكّة أو في الأزمان التي ستلي ذلك إلى يوم القيامة، وعموم المسلمين لا يطيقون ما فعله عمر رضي الله عنه، وليس مطلوبًا منهم ذلك، إنما المطلوب هو الحذر والاحتياط والأخذ بالأسباب الكاملة لضمان سلامة الهجرة، فعملية الهجرة في حد ذاتها ليست هدفًا، إنما الهدف هو الوصول إلى المدينة لإقامة الدولة هناك، فيجب الأخذ بكل الأسباب لتجنب كل المعوقات لإقامة هذه الدولة، ولو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيةً لأصبح لزامًا على كل المسلمين أن يخرجوا علانية، وهذا ليس من الحكمة.
ومع ذلك فهجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه على هذه الصورة لم تكن مخالفة شرعية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه هذه الطريقة في الهجرة، وكانت هذه الطريقة وسيلة من وسائل إرهاب أهل الباطل، وقام بها الذي يملك من البأس والقدرة ما يرهب به أعداء الله، وإرهاب أعداء الله أمر مطلوب شرعًا، ونتائجه عظيمة على الدعوة، وأمرنا الله عز وجل به في كتابه فقال: [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ] {الأنفال: 60}.
وقد وقعت الرهبة فعلاً في قلوب الكافرين، فلم يخرج خلفَ عمر أحدٌ، بل أكثر من ذلك لقد هاجر مع عمر رضي الله عنه عشرون من ضعفاء الصحابة، وما استطاع أحد من المشركين أن يقترب منهم، وصدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذ يقول:
إن إسلام عمر كان فتحًا، وإن هجرته كانت نصرًا، وإن إمارته كانت رحمة.
القصة الرابعة: هجرة عياش بن أبي ربيعة رضي الله عنه:
وكان عياش بن أبي ربيعة ممن هاجر مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعياش بن أبي ربيعة هو أخو أبي جهل من أمه، وبعد أن وصل عياش إلى المدينة علم أبو جهل بهجرته، فماذا فعل أبو جهل؟
لقد أخذ أخاهم الثالث الحارث بن هشام وانطلق إلى المدينة المنوّرة، سفر بعيد (خمسمائة كيلو متر) وعملية خطرة، ومجازفة كبيرة، وبذل ومجهود وعرق ووقت [إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ] {النساء: 104}.
وصل أبو جهل إلى قباء والتقى بأخيه عياش بن أبي ربيعة في وجود عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال أبو جهل: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط، ولا تستظل بشمس حتى تراك.
فرقَّ لها عياش، وكان بارًّا جدًّا بأمه.
فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم، فوالله لو آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكّة لاستظلت.
فقال عياش (وقد خُدِع بكلام أخويه): أبرُّ أمي، ولي مال هناك آخذه.
قال عمر: خذ نصف مالي ولا تذهب معهما.
ولكن أَبَى عياش إلا أن يعود ليبر قسم أمه.
فقال له عمر: أما إذا قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه؛ فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزمْ ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانجُ عليها.
وخرج عياش وأخواه أبو جهل والحارث بن هشام إلى مكّة، حتى إذا ابتعدوا عن المدينة دبر الأخوان الكافران خدعة وأمسكا بعياش وقيداه بالحبال، ودخلوا به مكّة موثقًا، ثم قالا لأهل مكّة: يا أهل مكّة، هكذا فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا.
وحُبِس عياش بن أبي ربيعة فترة من الزمان، ولم ينجُ إلا بعد أن أرسل له رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة وهو الوليد بن الوليد لإنقاذه في مغامرة رائعة.
كانت هذه بعض النماذج لهجرة بعض الصحابة من مكّة إلى المدينة، وواضح أن الأمر لم يكن بسيطًا، بل كانت الهجرة تعني البذل والعطاء والتعب والنصب، كان في الهجرة خطورة كبيرة على معظم المهاجرين، وفوق ذلك فهم يهاجرون إلى المجهول، فكل الصحابة لم يذهبوا قبل ذلك إلى المدينة المنوّرة، ولا يعرفون أهلها ولا طباعهم، ولم يلتقوا باليهود من قبل - وهم موجودون بأعداد كبيرة في المدينة - غير أن المسلمين يعلمون عنهم أنهم قوم سوء وأهل مخالفة لأنبياء الله ورسله، كما أنهم أهل حرب وقتال وقوتهم الاقتصادية لا يستهان بها.
كل هذا كان يصعب من الهجرة، ولكنها كانت خطوة لا بد منها - على خطورتها - لبناء الأمة الإسلاميّة، وهكذا هاجر المسلمون من مكّة، وقد هاجر معظم المسلمين الذين استطاعوا الهجرة في شهري المحرم وصفر من السنة الرابعة عشرة من النبوة، أي بعد بيعة العقبة الثانية بشهر واحد أو أقل، ولم يبقَ في مكّة إلا ثلاثة فقط؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه وعائلته، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان بقاء أبي بكر وعلي رضي الله عنهما بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القلق يغزو قريشًا:
أما قريش فإنها كانت ترقب الموقف على وجل، فإنها تُفاجَأ كل يوم بهجرة رجل أو رجلين أو عائلة، بل إن بعض الفروع من القبائل قد هاجرت بكاملها، وخلت كثير من ديار مكّة من سكانها، وقد أثر ذلك في قريش وزعمائه، فما منهم من أحد إلا وله قريب أو ابن مهاجر مما مزقهم بين الحب الفطريّ لأبنائهم وأقاربهم، وبين كراهيتهم وتغيظهم على هذا الدين الذي تسبب في هذا الفراق - من وجهة نظرهم، وإلا فإن جهلهم وعنادهم هو السبب في كل ما يحدث - كما أن انتشار الإسلام في الجزيرة سيسلب قريشًا زعامتها التي تكتسبها من رعايتها للكعبة؛ لأن الإسلام أيضًا يدعو لتعظيم البيت الحرام، كما سيقضي على تجارة بيع الأصنام والخمور وعلى الربا والبغاء.
ولم يكن يخفى على قريش أن الهجرة تمت إلى المدينة المنوّرة، بدليل ذهاب أبي جهل لإرجاع أخيه عياش بن أبي ربيعة من هناك، ولم تكن هجرة المؤمنين راحةً لأهل مكّة المشركين، أبدًا، كان المشركون يدركون أن المسلمين يهاجرون لبناء أمة مسلمة في المدينة المنوّرة، ولو تمَّ ذلك فلا شك أنهم سيعودون إلى مكّة، لا لمجرد السكن فيها، ولكن لحكمها، ووقت يحكمونها فلن يقبلوا أن يظل العرب وغيرهم يتحاكمون إلى( هُبَل) وسدنته، بل سيُحكِّمون رب العالمين كما علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم طوال ثلاثة عشر عامًا قضاها في مكّة لهذا الغرض؛ ولذلك كان المشركون في أشد حالات اضطرابهم وقلقهم. أضف إلى ذلك علم أهل قريش ببأس الأوس والخزرج، وأنهم من أهل القتال وأن المدينة حصينة جدًّا، وأن المدينة تقع على طريق القوافل التجارية لأهل قريش والمتجهة من وإلى الشام، ومن ثَمَّ فإن المدينة تستطيع أن تخنق مكّة اقتصاديًّا، وكانت مكّة تتاجر بربع مليون دينار من الذهب سنويًّا مع الشام في رحلة الشتاء، وفوق كل ذلك فالطامَّة الكبرى لو آمنَ اليهود، وانضمت قوتهم إلى قوة المسلمين، وقد كان اليهود ذوي قوة كبيرة عسكريًّا وماديًّا، والعقل كان يرجح إسلام اليهود؛ لأنهم أهل كتاب ويؤمنون بالأنبياء، غير أن اليهود لا عقل لهم.
كل هذه الأمور جعلت أهل قريش في حيرة من أمرهم، وقد علموا أنه كلما مرَّ الوقت اقتربت ساعة الصفر التي سيغزو فيها المؤمنون مكّة، لكن زعماء قريش كانوا يدركون أيضًا أن ساعة الصفر هذه لن تكون إلا بعد أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنوّرة، ويوحّد صفوفه، ويجهّز جيوشه، ثم يأتي من جديد إلى مكّة. إذن فحجر الزاوية في الموضوع هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوسيلة الوحيدة لوقف خطر المؤمنين الداهم هو السيطرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم القبيلة العزيزة الشريفة؟!
مجلس شورى قريش يقرر اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم
حَارَ القرشيون المشركون، فقرروا عقد اجتماع عاجل لكبار الزعماء في مكّة لتدارس هذا الأمر، وذلك في دار الندوة، المقر الرئيسي لاجتماعات قريش.
وفي صباح يوم الخميس 26 صفر من السنة الرابعة عشرة للبعثة، تم عقد أخطر اجتماع في تاريخ دار الندوة، وكان اجتماعًا طارئًا حضره ممثلون عن كل القبائل القرشية عدا بني هاشم، وكانت أبرز الأسماء في هذا الاجتماع الخطير:
- أبو جهل بن هشام عن قبيلة بني مخزوم.
- شيبة وعتبة أبناء ربيعة، وأبو سفيان بن حرب عن بني عبد شمس.
- النضر بن الحارث عن بني عبد الدار.
- أبو البختري بن هشام عن بني أسد.
- أمية بن خلف عن بني جمح.
- جبير بن مطعم عن بني نوفل.
- نبيه ومنبه ابنا الحجاج عن بني سهم.
وغيرهم، والجميع كانوا من قريش؛ لأنه لم يكن مسموحًا لأحد من غير قريش أن يدخل دار الندوة، ولم أجد دليلاً صحيحًا يؤكد القصة التي جاء فيها أن إبليس قد حضر معهم الاجتماع في صورة الشيخ النجديّ، وإن كان - في رأيي - أنه أحيانًا تسبق شياطين الإنس بأفعالها شياطين الجن، ألم تروا أن الله عز وجل قد قدم ذكر شياطين الإنس في عداوتهم للأنبياء على شياطين الجن، فقال تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ] {الأنعام: 112}.
تم الاجتماع الآثم، وبدأت الأفكار الإجرامية تخرج من زعماء قريش، وتطرح للمداولة، منهم من اقترح أن يقيدوه في بيته بالحبال، فلا يستطيع هجرة ولا حراكًا، ومنهم من اقترح نفيه خارج مكّة إلى مكان بعيد، وكانت هذه الأفكار الإجرامية تخرج من الطائفة التي يسمونها بالمعتدلين من زعماء قريش، لكن كانت هناك طائفة أشد إجرامًا وهي ما يسمونها بالطائفة المتشددة، قال رجل من هذه الطائفة - لعله أبو جهل -: لا بد من قتل هذا الرجل. يقصدون محمدًا صلى الله عليه وسلم، ووافقت هذه الفكرة هوى عند المعظم، فقلوبهم السوداء كانت تحترق غيظًا وحسدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لم يكن عندهم الشجاعة للنطق بمثل هذا الرأي، وفوق ذلك فهم يخشون من بني هاشم، غير أن أبا جهل خرج عليهم بفكرة شيطانية، وهي أن يختاروا من كل قبيلة في مكّة شابًّا قويًّا، فيحاصرون بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل، ولا تجد بنو هاشم أمامها حلاًّ إلا قبول الدية في قتيلها؛ فليست لهم طاقة بحرب كل القبائل.
صوَّت الحاضرون على القرار، وسألهم أبو جهل: موافقون؟! قالوا: موافقون.
وخرج زعماء قريش ينتقون من قبائلهم العناصر التي ستقوم بتنفيذ العملية الإرهابية لاغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر الله عز وجل ذلك في كتابه الكريم فقال: [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] {الأنفال: 30}.
الاستعداد للهجرة ووضع الخطة
نزل جبريل عليه السلام فورًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بأمر الجريمة التي تدبر له، وقال له: لا تبت في فراشك الليلة. وأمره بالهجرة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل: من يهاجر معي؟ قال: أبو بكر الصّدّيق. وذلك كما جاء في مستدرك الحاكم بسند صحيح.
الرسول صلى الله عليه وسلم يخطط للهجرة:
علم الرسول صلى الله عليه وسلم بخطة قريش، وعلم أن موعد التنفيذ سيكون في فجر اليوم الثاني، ولذلك لا بد من الإسراع في أخذ الخطوات اللازمة للهجرة.
تعالَوْا نَعِشْ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه اللحظات النادرة، وهو يدبر ويخطط ويرتب لعملية من أخطر العمليات في التاريخ الإسلامي، إنه يريد أن يخرج من مكّة هو والصّدّيق رضي الله عنه دون أن يشعر بهما أحد، بل بدون أن يشعر أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم بأمر الجريمة التي تدبر له حتى لا يعجل الكفار بجريمتهم. لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إني رسول الله وسوف يرعاني الله ويحفظني، بل أخذ بكل الأسباب الممكنة لإنجاح عملية الهجرة الخطرة، كانت أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة مشاكل أراد أن يدبر لها حلاًّ:
أولاً: أنه يريد أن يذهب للصديق رضي الله عنه ليخبره بأمر الهجرة، ولكن دون أن يراه أحد.
ثانيًا: هل يا تُرى سيكون الصّدّيق جاهزًا لهذه الهجرة المفاجئة، التي ستكون بعد ساعات فقط؟
ثالثًا: لا شك أن الكفار سيأتون لحصار بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو اكتشفوا هجرته فسيتبعونه خارج مكّة، ولو خرجوا خلف الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة فسيكون احتمال اللحاق به كبيرًا، فكيف يؤجل رسول الله صلى الله عليه وسلم حركة المطاردة المشركة له؟
رابعًا: في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانات كان القوم يحفظونها عنده، وسبحان الله كان أهل مكّة المشركون لا يجدون من هو أكثر أمانة من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يحفظوا عنده أماناتهم، وذلك مع شدة عدائهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم على درجة هائلة من الأمانة بحيث إنه في هذا الموقف الخطير ما زال مشغولاً بردِّ الأمانات، ولم يقل إنها أموال الأعداء، يجوز الاستيلاء عليها، بل ظلَّ محافظًا على العهد الذي بينه وبينهم.
على الفور بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يفكر في حل هذه المشاكل فقرر أولاً أن يذهب إلى الصّدّيق ليخبره بأمر الهجرة ولكن في تكتم شديد، فخرج في وقت الظهيرة، وهو وقت لم يعتد فيه أن يذهب إلى الصّدّيق، وفي الوقت ذاته هو وقت تخلو فيه شوارع مكّة من المارة لشدة الحر. والأمر الثاني الذي قرره صلى الله عليه وسلم هو جَعْل علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقوم بمهمة مزدوجة، هذه المهمة هي أن ينام في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الليلة، وقد تغطَّى ببردة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء المشركون ونظروا من ثقب الباب وجدوا عليًّا نائمًا في غطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيظنونه الرسول صلى الله عليه وسلم، أي أنها عملية تمويه وإخفاء، وبهذا يُعطي الرسول صلى الله عليه وسلم الوقت الكافي للابتعاد عن مكّة. وإلى جانب هذه المهمة الخطرة فإنه على عليٍّ رضي الله عنه أن يعيد الأمانات إلى أصحابها في اليوم التالي، فلا تضيع حقوق أحدٍ من المشركين.
وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تنفيذ خطته بسرعة، فخرج من الظهيرة متجهًا إلى بيت الصّدّيق رضي الله عنه، وزيادة في التخفي فإن الرسول صلى الله عليه وسلم غطَّى رأسه ببعض الثياب، فلو رآه أحد من بعيد ما أدرك بسهولة أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دخل الرسول صلى الله عليه وسلم على الصّدّيق في هذه الساعة التي ما جاء فيها إلى الصّدّيق من قبل طيلة الأعوام السابقة، حتى إن ذلك لفت نظر الصّدّيق رضي الله عنه فقال - كما تحكي السيدة عائشة رضي الله عنها، وكما جاء في صحيح البخاري -: "فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلاَّ أَمْرٌ".
وحتى هذه اللحظات والصّدّيق لا يعلم أنه سيهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها:
فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَبِي بَكْرٍ:
"أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ". زيادةً في الحذر.
فقال الصّدّيق في اطمئنان:
إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:
"فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ".
فقال أبو بكر، وقلبه يكاد ينخلع من اللهفة: الصُّحْبَةُ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
يعني هل سأصحبك في هذه الرحلة؟
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ".
هنا لم يستطع أبو بكر رضي الله عنه أن يتمالك نفسه من شدة الفرح، فبكى!!
سبحان الله! تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: فَلَمْ أَكُنْ أَدْرِي أَنَّ أَحَدًا يَبْكِي مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ حَتَّى رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يَبْكِي.
فبكى من شدة الفرح؛ لأنه سيخرج في هذه الهجرة الخطرة، بل شديدة الخطورة، لا شك أن الصّدّيق رضي الله عنه كان يقدر خطورة هذه الرحلة، ولا شك أنه كان يعلم أنه سيكون من المطلوبين بعد ذلك، وقد يُقتل، لكن كل ذلك لم يؤثّر فيه مطلقًا، إنه يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حبًّا لا يوصف، يحبه أكثر من حب الأم لولدها، هل لو تعرض الابن لخطر ما، أتتركه أمه دون رعاية خوفًا على نفسها من الخطر؟ مستحيل، الصّدّيق كان أكثر من ذلك، كان هذا حبًّا حقيقيًّا غير مصطنع، لازمه في كل لحظة من لحظات حياته، منذ آمن وإلى أن مات رضي الله عنه، حتى بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما تغيّر حبه في قلب الصّدّيق قَطُّ، وبهذا الحب وصل الصّدّيق رضي الله عنه إلى ما وصل إليه. وقبل أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وسيلة الانتقال إلى المدينة، إذا بالصّدّيق رضي الله عنه يقول: فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هاَتَيْنِ.
كان الصّدّيق رضي الله عنه يتوقع أن يكون صاحبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فاشترى راحلة أخرى غير راحلته، وبدأ يعلف الراحلتين استعدادًا للسفر الطويل، فلما جاء موعد السفر كان الصّدّيق جاهزًا تمامًا، لم يجهّز نفسه فقط، بل جهز راحلتين، له ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض أن يأخذ الراحلة إلا بثمنها، فَقَالَ: "بِالثَّمَنِ".
نعم الصّدّيق أنفق معظم ماله على الدعوة، ولكن كان ذلك لإعتاق العبيد وللإنفاق على الفقراء، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يريد من أحد أن ينفق عليه هو شخصيًّا، فأصرَّ أن تكون الراحلة مملوكة له بماله.
وقفة مع الصّدّيق رضي الله عنه:
وأنا أريد أن أقف هنا مع رد فعل الصّدّيق رضي الله عنه لقرار الهجرة:
- إنه كان مستعدًّا تمامًا، استعدادًا نفسيًّا كاملاً للرحيل وترك الديار والبلاد دون اعتذار بأي ظرف معوِّق، ولا شك أنه إنسان وأنه تاجر وأنه أب وأنه زوج وأنه كذا وكذا، لا شك أن عنده أمورًا كثيرة تعوقه كبقية البشر، ولكنه رضي الله عنه كان يعطي العمل لله عز وجل قدره الحقيقي؛ ولذلك كان يهون إلى جواره أي عمل آخر.
- وكان مستعدًّا استعدادًا يناسب المهمة، فقد أعد راحلتين حتى دون أن يطلب منه.
- وكان مستعدًّا استعدادًا عائليًّا، فقد أَهَّلَ بيته لقبول فكرة الهجرة، وأخذ القرار ببساطة مع أنه سيترك خلفه في مكّة بناتٍ صغارًا.
- وكان مستعدًّا استعدادًا ماليًّا، فقد ادَّخر خمسة آلاف درهم للإنفاق على عملية الهجرة، ولتأمين الطريق أخذها بكاملها عند خروجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يترك لأهله شيئًا من المال، ولكنه ترك لهم كما اعتاد أن يقول: تَرَكْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
هذا رجل يعيش للقضية الإسلاميّة، حياته كلها في خدمة هذا الدين، أوراقه كلها مرتبة لمصلحة الإسلام، أولوياته واضحة، أهدافه جلية، طموحاته عالية.
هذا هو الصّدّيق أبو بكر رضي الله عنه.
جلس الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر يخططان لأمر الهجرة، يحسبان لكل خطوة حسابها، فوضعا معًا خطة بارعة توفر أفضل الفرص للنجاة.
خطة بارعة لتضليل المشركين:
فما عناصر هذه الخطة؟
أولاً: سيخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته في أول الليل، ويأتي إلى الصّدّيق في بيته؛ وذلك لتجنب الحصار الذي سيفرض حتمًا على بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: سيبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت الصّدّيق رضي الله عنه جزءًا من الليل، حتى تهدأ الحركة في مكّة تمامًا، وهنا سيأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصّدّيق الراحلتين وينطلقان في الرحلة.
ثالثًا: سيكون الخروج من بيت الصّدّيق من خلال خوخة (فتحة) في خلف البيت؛ لأنه من المحتمل أن تكون هناك مراقبة لباب البيت، فقد يتوقع المشركون أن يخرج الصِّدِّيق - الصاحب الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم - معه إلى الهجرة.
رابعًا: ستتم الهجرة إلى المدينة عن طريق ساحل البحر الأحمر، وهو طريق وعرٌ غير مألوف لا يعرفه كثير من الناس، وليس هو الطريق المعتاد للذهاب إلى المدينة، وذلك حتى يضمنوا الاختفاء عن أعين المشركين.
خامسًا: سيتم استئجار دليل يصحبهم في هذه الرحلة؛ لأن الطريق غير معروف، والضياع في الصحراء أمر خطير، ولا بد أن يكون هذا الدليل ماهرًا في حرفته، أمينًا على السر، وفي الوقت ذاته لا يشك المشركون في أمره، وقد اتفق الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصّدّيق على أن يكون هذا الرجل هو عبد الله بن أريقط، وهو من المشركين وهذا في منتهى الذكاء، فالمشركون لن يشكوا مطلقًا في أمره إذا رأوه سائرًا في خارج مكّة، وهو في الوقت ذاته رجل أمين يكتم السر، وهو رجل في النهاية صاحب مصلحة، فقد اسْتُؤجر بالمال، ولا شك أن أجرته كانت مجزية.
سادسًا: سيتجه الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في أول الهجرة إلى الجنوب في اتجاه اليمن لمسافة خمسة أميال كاملة أي حوالي ثمانية كيلو مترات، وهي مسافة كبيرة، مع أن المدينة في شمال مكّة وليست في جنوبها، ولكن ذلك إمعانًا في التمويه؛ لأن المشركين إذا افتقدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا شك أنهم سيطلبونه في اتجاه المدينة وليس في اتجاه اليمن.
سابعًا: سيتم الذهاب إلى غار ثور في جنوب مكّة، وهو غار غير مأهول في جبل شامخ وعر الطريق، صعب المرتقى، وسيبقيان في هذا الغار مدة ثلاثة أيام كاملة، ولن يتحركا في اتجاه المدينة إلا بعد انقضاء هذه الأيام الثلاثة، حين يفقد أهل قريش الأمل في العثور عليهم، فيكون ذلك أدعى لأمانهم، وسوف يتركان الراحلتين مع عبد الله بن أريقط الدليل، على أن يقابلهما عند الغار بعد الأيام الثلاثة.
ثامنًا: سيقوم عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما بدور المخابرات الإسلاميّة في هذه العملية الخطيرة، فهو سيذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والصّدّيق رضي الله عنه كل يوم بأخبار مكّة، وتحركات القرشيّين، وردود الأفعال لخروج الرسول صلى الله عليه وسلم، وسوف يأتي في أول الليل، وسيبقى مع الرسول صلى الله عليه وسلم والصّدّيق طوال الليل ثم يعود إلى مكّة قبل الفجر، ويبيت هناك، ثم يظهر نفسه للناس، فلا يشك أحد في أنه كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه.
تاسعًا: سيقوم عامر بن فهيرة رضي الله عنه مولى الصّدّيق رضي الله عنه بدور التغطية الأمنية لهذه العملية، وذلك برعي الأغنام فوق آثار أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم والصّدّيق رضي الله عنه، ثم فوق آثار أقدام عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما بعد ذلك، حتى يضيع على المشركين فرصة تتبع آثار الأقدام.
عاشرًا: ستقوم السيدة الفاضلة أسماء بنت أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنها بدور الإمداد والتموين لهذه العملية الصعبة، فهي ستحمل الطعام والماء، وتتجه به كل يوم إلى غار ثور إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأبيها الصّدّيق رضي الله عنه، وستقوم السيدة أسماء بهذا الدور؛ لأنه لن يشك أحد في أمر امرأة تسير في الصحراء، وخاصة أنها كانت في الشهور الأخيرة من حملها، وتخيل معي كيف لامرأة حامل في شهورها الأخيرة أن تحمل الطعام والشراب، وتسير به مسافة ثمانية كيلو مترات في الصحراء، ثم تصعد الجبل الصعب الذي به غار ثور، وتفعل ذلك ثلاثة أيام متواصلة!!
قد تظن هذا الأمر عجيبًا، لكن يزول العجب عندما تعلم أنها قد تربت في بيت الصّدّيق رضي الله عنه.
كان هذا هو العنصر العاشر في الخطة النبويّة - الصّدّيقيّة الرائعة، فتلك عشرة كاملة.
وبذلك استنفد الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصّدّيق رضي الله عنه وسعهما في إنجاح الخطة، ورفعا أيديهما إلى الله عز وجل أن يكتب لهما النجاة.
عاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيته بعد وضع الخطة المحكمة، وجهَّز نفسه، واستقدم عليًّا رضي الله عنه لينام مكانه، وأعطاه برده الأخضر ليتغطى به، وعرفه بالأمانات وأصحابها، ثم جاء وقت الرحيل، والذهاب إلى بيت الصّدّيق رضي الله عنه، ولكن اكتشف رسول الله صلى الله عليه وسلم المفاجأة، أحاط المشركون ببيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إحاطة كاملة، وجاءوا قبل الموعد الذي ظن رسول الله صلى الله عليه سلم أنهم يجيئون فيه.
فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ:
لقد استنفد الرسول صلى الله عليه وسلم الوسع في الخطة هو والصّدّيق رضي الله عنه، ولكن الطابع المميز لخطط البشر أنها لا تصل إلى الكمال، لا بد من ثغرات في الخطط البشرية، لكن إذا كنت مستنفدًا وسعك الحقيقي فإن الله عز وجل يسدُّ هذه الثغرات بمعرفته، ويكمل العجز البشريّ بقدرته، لكن دون أخذٍ بالأسباب بكل الأسباب الممكنة لا يسدّ الله هذه الثغرات، ولا يكمل هذا العجز، هذا لا يكون توكُّلاً على الله، بل تواكلاً، وشتَّانَ بين التوكُّل والتواكُل.
ماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف الحرج، عشرات السيوف تحيط بالبيت، والقرار ليس الحبس والمحاكمة، بل لقد صدر الحكم فعلاً بالقتل، وهم قد جاءوا للتنفيذ، ماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
لقد نزل الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطمئنه، ويأمره بالخروج وسط المشركين دون خوف ولا وجل، فسوف يأخذ الله عز وجل بأبصارهم، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة المباركة، ليلة 27 من صفر سنة 14 من النبوة، وهو يقرأ صدر سورة يس، من أولها إلى قوله عز وجل:
[وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ] {يس: 9}.
وإمعانًا في السخرية من المشركين، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة من التراب، ووضع جزءًا منها على رأس كل مشرك يحاصر بيته، وهم لا يشعرون، ثم انطلق إلى بيت الصّدّيق رضي الله عنه لاستكمال تنفيذ الخطة، فهي - بحمد الله إلى الآن - تسير على ما يرام.
كان من الممكن أن يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من البيت قبل قدوم المشركين، لكن الله عز وجل أراد ذلك لإثبات أن الأمر كله بيد الله عز وجل، وأنه دون توفيق الله عز وجل لا يتمّ أمر من الأمور، وأيضًا ظهرت المعجزة الظاهرة في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى الناحية الأخرى كان من الممكن أن يأخذ الله عز وجل أبصار المشركين فلا يقع على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ أذى طيلة حياته، ولكن هذا لم يحدث، لقد أُلقي على ظهره سلا الجزور، ورحم الشاة، وسُبّ بأفظع الألفاظ، ورجم بالحجارة في الطائف، وأصيب في أُحُد أكثر من إصابة، لم يأخذ الله عز وجل بأبصار المشركين في كل هذه المواقف، ليُعلّم المسلمين طبيعة الطريق، فطريق المسلم فيه كثير من الإيذاء، وكذلك فيه كثير من الأخذ بعيون المشركين، وعيون أعداء الله عز وجل، يحدث ذلك مع كل المؤمنين، نعم يكون الأمر واضحًا كمعجزة مع الأنبياء، لكن قد يفعله الله عز وجل مع المؤمنين دون أن يطلع الناس عليه، فيأخذ عنهم أبصار أعدائهم، ويكفينا في ذلك قول الله عز وجل:
[إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ] {الحج: 38}.
خلاصة القول: إن حياة الداعية وحياة الناس أجمعين بيد الله عز وجل، والله عز وجل يكتب أحيانًا ابتلاء للمؤمن وفي ذلك حكمة، وأحيانًا يكتب له نجاةً من الأذى وفي ذلك حكمة أيضًا، ولا تسير الأمور إلا بقدر الله عز وجل [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ] {القمر: 49}.
ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين يحاصرون البيت، وفيه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وانطلق إلى الصّدّيق رضي الله عنه، ومكث عنده إلى منتصف الليل، ثم خرجا من الخوخة الخلفية في البيت، واتجها جنوبًا إلى غار ثور، ووصلا إليه بالفعل، واستكشف أبو بكر رضي الله عنه الغار أولاً ليرى إن كان به أي شيء يضرّ، فلما وجده آمنًا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار، وتم الجزء الأول من الخطة بنجاح.
نعود إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمشركون يحاصرونه، وعليّ رضي الله عنه نائم بداخله، وبينما هم على هذه الحالة، مرّ عليهم رجل من المشركين لم يكن معهم؛ فقال لهم قولاً خطيرًا، لقد قال لهم: ماذا تنتظرون هنا؟ قالوا: محمدًا. قال: خيَّبَكم الله، قد والله خرج عليكم محمد. إذن الرجل شاهد محمدًا صلى الله عليه وسلم في مكان آخر، فمع كل الاحتياط والحذر إلا أن هناك رجلاً لمح محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو في طريق الهجرة، ولكن يبدو أنه لم يكن يعلم بتخطيط قريش فلم يأبه لرؤيته، فلما سمع القوم ذلك انزعجوا، وزاد من انزعاجهم التراب الذي وجدوه على رءوسهم، في إشارة واضحة إلى أنه مرّ عليهم فلم يشاهدوه، وفي هذا معجزة ظاهرة، ولكنهم كانوا قد عميت أبصارهم وبصائرهم. قام المشركون بسرعة ينظرون من ثقب الباب فوجدوا عليًّا ينام في الفراش وهو يتغطّى ببردة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: والله إن هذا لمحمدٌ نائمًا.
فتحير القوم، فقام فيهم من يقترح أن يقتحموا البيت على هذا النائم، ولكن اعترض معظمهم على ذلك، أتدرون لماذا؟
لقد قالوا: والله إنها لسُبة في العرب أن يتُحدثَ عنا أنْ تسورنا الحيطان على بنات العمِّ، وهتكنا سترَ حرمتنا.
سبحان الله! كفار مكّة لا يهتكون ستر البيوت، ولا يقتحمون حرمات الديار.
وانتظر المشركون إلى الصباح حتى قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه من فراشه، فرآه القوم، وأسقط في أيديهم، وأمسكوه يجرونه إلى البيت الحرام ويضربونه.
علي بن أبي طالب يتحمل الإيذاء:
وهنا نشاهد الموقف الحكيم من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان يبلغ آنذاك ثلاثة وعشرين عامًا، إنه لم يرُدَّ الضرب بالضرب، مع كونه فتًى عزيزًا، وفارسًا مغوارًا، وسنرى أفعاله بعد سنتين في بدر، ولكنه تحلى بالصبر، وتجمل بالحلم، لماذا؟
أولاً: لم يؤذن بعدُ للمسلمين في القتال إلى هذه اللحظة.
ثانيًا: الهَلَكَة محققة لغياب كل المسلمين تقريبًا، واجتماع كل المشركين على بني هاشم.
ثالثًا: عليه مهمة عظيمة لم يقم بها بعدُ، وهي ردُّ الأمانات إلى أهلها، ولا بد أن يحافظ على نفسه حتى يقوم بهذه المهمة.
أخذ المشركون عليًّا رضي الله عنه وحبسوه ساعة واحدة، لم يحبسوه شهرًا أو عامًا أو أعوامًا، إنما ساعة واحدة فقط، ثم أطلقوه، فمكث رضي الله عنه في مكّة ثلاثة أيام يرد الأمانات إلى أهلها، ثم انطلق مهاجرًا إلى المدينة ال