(5) نُبُوءَته صَلَّى الله عليه وسَلَّم بأنَّه لا يَأتِي زَمَان إلاَّ والَّذِي بَعْده شَرّ مِنْه:
أخْرَجَ البُخَارِيّ في صَحِيحه:
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يُوسُف؛ ثَنَا سُفْيَان؛ عن الزُّبَيْر؛ عن عَدِيّ قال [ أتَيْنَا أنَس بْن مَالِك فشَكَوْنَا إلَيْه ما يَلْقَوْن مِن الحَجَّاج فقال: (اصْبِرُوا، فإنَّه لا يَأتِي عَلَيْكُم زَمَان إلاَّ والَّذِي بَعْده أشَرّ مِنْه حتى تَلْقوا رَبّكُم) سَمِعْته مِن نَبِيّكم صَلَّى الله عليه وسَلَّم ]، قال ابْن حَجَر [ الحَجَّاج هو ابن يُوسُف السَّقَفِي، الأَمِير المَشْهُور، والمُرَاد شَكْوَاهُم ما يَلْقَوْن مِن ظلمه لَهُم وتَعَدِّيه ].
دَرَجَة الحَدِيث:
صَحِيح، أخْرَجَه الإمَام البُخَارِيّ في صَحِيحه.
تَحَقُّق النُّبُوءَة:
صَدَقَ رَسُول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم، حَيْثُ نَجِد الأُمُور سَائِرَة إلى فَسَاد، والأحْوَال إلى انْحِطَاط مِنَ القَرْن الأوَّل الهِجْرِي إلى يَوْمنا هذا، فلا يَأتِي يَوْم أو عَام أو قَرْن جَدِيد إلاَّ وهو أكْثَر فَسَادَاً وشَرَّاً مِنْ سَابِقه.
قال ابْن بَطَّال [ هذا الخَبَر مِن أعْلام النُّبُوَّة؛ لإخْبَاره صَلَّى الله عليه وسَلَّم بفَسَاد الأحْوَال، وذَلِك مِن الغَيْب الَّذِي لا يُعْلَم بالرَّأي وإنَّمَا يُعْلَم بالوَحْي ].
وقد حَملَه الحَسَن البَصْرِي عَلَى الأكْثَر الأغْلَب، فسُئِلَ عن وُجُود عُمَر بن عَبْد العَزِيز بَعْد الحَجَّاج فقال [ لابُدَّ للنَّاس مِنْ تَنْفِيس ]، وأجَابَ بَعْضهم بأنَّ المُرَاد بالتَّفْضِيل تَفْضِيل مَجْمُوع العَصْر عَلَى مَجْمُوع العَصْر، فإنَّ عَصْر الحَجَّاج كان فِيهِ كَثِير مِنَ الصَّحَابَة في الأحْيَاء، وفي عَصْر عُمَر بن عَبْد العَزِيز انْقَرَضُوا، والزَّمَان الَّذِي فِيهِ الصَّحَابَة خَيْرٌ مِنَ الزَّمَان الَّذِي بَعْده لقَوْله صَلَّى الله عليه وسَلَّم [ خَيْر النَّاس قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِين يَلُونهم، ثُمَّ الَّذِين يَلُونهم ... ].
الأمْثِلَة التَّطْبِيقِيَّة (مُجَرَّد أمْثِلَة):
الوَاقِع يَشْرَح نَفْسه دون حَاجَة إلى أمْثِلَه، ونُبُوءَة رَسُول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم تَتَحَقَّق كُلّ لَحْظَة، ويَعِي ذَلِك جَيِّدَاً ذو البَصِيرَة الفَطِن.
(6) نُبُوءَته صَلَّى الله عليه وسَلَّم عن القَدَرِيَّة:
أخْرَجَ الإمَام أحْمَد في مُسْنَده :
حَدَّثَنَا أبو عَبْد الرَّحْمَن عَبْد الله بْن يَزِيد؛ ثَنَا سَعِيد يَعْنِي ابْن أبي أيُّوب؛ ثَنَا أبو صَخْر؛ عن نَافِع قال [ كان لابْن عُمَر صَدِيق مِنْ أهْل الشَّام يُكَاتِبه، فكَتَبَ إلَيْه مَرَّة عَبْد الله بْن عُمَر: أنَّه بَلَغَنِي أنَّكَ تَكَلَّمْت في شَيْءٍ مِِنَ القَدَر، فإيَّاكَ أنْ تَكْتُب إلَيّ، فإنِّي سَمِعْتُ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم يَقُول ( سَيَكُون مِنْ أُمَّتِي أقْوَام يُكَذِّبون بالقَدَر ) ].
- القَدَر .. ما قَضَاه الله وحَكَمَ بِهِ مِنَ الأُمُور.
- القَضَاء .. هو نَفَاذ وتَحَقُّق ذَلِكَ القَدَر.
دَرَجَة الحَدِيث:
صَحِيح، صَحَّحه التِّرْمِذِي والحَاكِم والذَّهَبِي.
تَحَقُّق النُّبُوءَة:
قد وَقَعَ ما أخْبَرَ بِهِ رَسُول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم، حَيْثُ ظَهَرَت في حدود سَنَة سَبْعِين مِنَ الهِجْرَة فِرْقَة أنْكَرَت القَدَر، وزَعَمَت أنَّ الله سُبْحَانَه وتَعَالى لَمْ يُقَدِّر الأشْيَاء، ولَمْ يَتَقَدَّم عِلْمه سُبْحَانَه بها، وإنَّمَا يَعْلَمهَا سُبْحَانَه بَعْدَ وُقُوعهَا، وسُمِّيَت هذه الفِرْقَة بالقَدَرِيَّة، لإنْكَارهم القَدَر، وكان أوَّل مَنْ تَكَلَّم في القَدَر هو معبد بن خالد الجهني.
وإنَّ مَذْهَب أهْل الحَقّ هو إثْبَات القَدَر، ومَعْنَاه أنَّ الله تَبَارَك وتعالى قَدَّر الأشْيَاء في القِدَم، وعَلِمَ سُبْحَانَه أنَّهَا سَتَقَع في أوْقَات مَعْلُومَة عِنْده سُبْحَانَه وتَعَالى، وعَلَى صِفَات مَخْصُوصَة، فهِيَ تَقَع حسب ما قَدَّرَها سُبْحَانَه وتَعَالى، وهو تعالى يُعْبَد بأمْره ويُعْصَى بعِلْمه ولا يَخْفَى عَلَيْه في مُلْكه شَيْء.
- قال تعالى [ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ].
- وقال تعالى [ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ].
- وقال أهْل العِلْم [ سُبْحَانَه، عَلِمَ ما كان، وما سَوْفَ يَكُون، وما لا يَكُون؛ لو كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُون ].
الأمْثِلَة التَّطْبِيقِيَّة (مُجَرَّد أمْثِلَة):
1. ظُهُور القَدَرِيَّة الجُدُد، قالوا مِثْل ما قال سَابِقِيهم، وأضَافُوا أنَّ أفْعَال النَّاس ومَقَادِيرهم تَتَحَدَّد وِفْق تَفَاعُلهم مَعَ بَعْضهم البَعْض ولَيْسَ وِفْق قَدَر مَكْتُوب مُسْبَقَاً، مِثْل تَفَاعُل قُوَى العَرْض والطَّلَب التي تُحَدِّد الأسْعَار في السُّوق، بلا تَدَخُّل مِنَ الله أو تَقْدِير مُسْبَق مِنْه.
2. رَفْض القَدَر بالأفْعَال والأقْوَال عِنْدَ نزول الابْتِلاءات والمَصَائِب، بفِعْل أفْعَال تُخَالِف الشَّرِيعَة وقَوْل أقْوَال تَصْطَدِم بالعَقِيدَة.
3. رَفْض القَدَر بالاعْتِرَاض عَلَيْه، وعَدَم الرِّضَا والقَنَاعَة بِهِ، والشُّكْر والحَمْد والصَّبْر عَلَيْه، وأوْضَح ما في ذَلِك قَضِيَّة العُقْم.
4. رَفْض القَدَر بعَدَم التَّوَكُّل عَلَى الله حَقَّ تَوَكُّله، وعَدَم اليَقِين الجَازِم في تَحَقُّق القَدَر المَكْتُوب لكُلّ إنْسَان، وأكْبَر ما في ذَلِك قَضِيَّة الرِّزْق
(7) نُبُوءَته صَلَّى الله عليه وسَلَّم عن اسْتِمْرَار طَائِفَة مِنْ أُمَّته ظَاهِرِين:
أخْرَجَ البُخَارِيّ في صَحِيحه :
حَدَّثَنَا عُبَيْد الله بْن مُوسَى؛ عن إسْمَاعِيل؛ عن قَيْس؛ عن المُغِيرَة بْن شُعْبَة؛ عن النَّبِيّ صَلَّى الله عليه وسَلَّم قال [ لا تََزَال طََائِِفَة مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِين حتى يَأتِيهم أمْر الله وهُمْ ظَاهِرُون ]، قال ابْن حَجَر [ المُرَاد بأمْر الله هُنَا الرِّيح التي تَقْبِض رَوْح كُلَّ مَنْ في قَلْبه شَيْء مِنَ الإيِمَان، ويَبْقَى شِرَار النَّاس، فعَلَيْهم تَقُوم السَّاعَة ].
وأخْرَجَ الإمام مُسْلِم في صَحِيحه [ لا تَزَال طَائِفَة مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِين على الحَقّ، لا يَضُرّهم مَنْ خَالَفَهم ].
دَرَجَة الحَدِيث:
الحَدِيث صَحِيح، أخْرَجَه الشَّيْخَان.
تَحَقُّق النُّبُوءَة:
صَدَقَ رَسُول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم، حَيْثُ لَمْ تَزَل جَمَاعَة مِنْ أُمَّته صَلَّى الله عليه وسَلَّم غَالِبَة مَشْهُورَة مِنْ عَصْر الصَّحَابَة رَضِيَ الله عنهم إلى يَوْمنا هذا رَغْم العَوَاصِف الهَوْجَاء التي هَبَّت ضِدَّ الإسْلام ومُعْتَقَدَاته الثَّابِتَة، وهي جَمَاعَة تَكَوَّنَت مِنْ شِتَات المُؤْمِنِين مِمَّن يَشْتَغِلون في أنْوَاع الخَيْر المُخْتَلِفَة، ويُقِيمُون شَعَائِر الإسْلام، ويُصْلِحون أمْر الدِّين؛ مِنْ مُحَدِّث وفَقِيه ومُفَسِّر ومُجَاهِد وزَاهِد وآمِرٍ بالمَعْرُوف ونَاهٍ عن المُنْكَر وما إلى ذَلِك.
يقول ابن عَدِيّ [ هذه الطَّائِفَة هُمْ أصْحَاب الحَدِيث الَّذِين يَتَعَاهَدون مَذَاهِب الرَّسُول ويَذُبُّون عن العِلْم، لَوْلاهُم لَمْ نَجِد عن المُعْتَزِلَة والرَّافِضَة والجَهْمِيَّة وأهْل الرَّأي شَيْئَاً مِنْ سُنَن المُرْسَلِين ]، ويقول الحَافِظ ابْن حَجَر [ جَزَمَ البُخَارِيّ بأنَّ المُرَاد بِهِم أهْل العِلْم بالآثَار، وقال أحْمَد بْن حَنْبَل (إنْ لَمْ يكونوا أهْل الحَدِيث فلا أدْرِي مَنْ هُمْ)، وقال القَاضِي عياض (أرَادَ أحْمَد أهْل السُّنَّة ومَنْ يَعْتَقِد مَذْهَب أهْل الحَدِيث) ]، وقال الإمَام النَّوَوِي [ يُحْتَمَل أنَّ هذه الطَّائِفَة مُفَرَّقَة بَيْنَ أنْوَاع المُؤْمِنِين، مِنْهُم شُجْعَان مُقَاتِلُون، ومِنْهُم فُقَهَاء زُهَّاد وآمِرُون بالمَعْرُوف ونَاهُون عن المُنْكَر، ومِنْهُم أهْل أنْوَاع أُخْرَى مِنَ الخَيْر، ولا يَلْزَم أنْ يَكُونُوا مُجْتَمِعِين، بَلْ قد يَكُونُون مُتَفَرِّقين في أقْطَار الأرْض، وفي هذا الحَدِيث مُعْجِزَة ظَاهِرَة، فإنَّ هذا الوَصْف مازَالَ بحَمْد الله تَعَالى مِنْ زَمَن النَّبِيّ صَلَّى الله عليه وسَلَّم إلى الآن، ولا يَزَال حتى يَأتي أمْر الله المَذْكُور في الحَدِيث ].
الأمْثِلَة التَّطْبِيقِيَّة (مُجَرَّد أمْثِلَة):
الأمْثِلَة كَثِيرَة ويَصْعُب حَصْرها، فمِنْهُم المُجَاهِد بماله، والمُجَاهِد بنَفْسه، والمُجَاهِد بفِكْره، ومِنْهُم الفَقِيه العَالِم، ومِنْهُم طَالِب العِلْم ونَاشِره، ومِنْهُم الآمِر بالمَعْرُوف والنَّاهي عن المُنْكَر الَّذي لا يَخْشَى في الله لَوْمَة لائِم، ومِنْهُم المُتَتَبِّع لسِيرَة رَسُول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم بالدِّرَاسَة والتَّطْبِيق والنَّشْر والدِّفَاع عَنْها، والكَثِير الكَثِير في مُخْتَلَف المَجَالات، نَدْعُو الله أنْ يُزِيد مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَة ويُكْثِر مِنْهَا، وأنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أهْلِهَا.
( 8 ) نُبُوءَته صَلَّى الله عليه وسَلَّم عن الكَذَّابِين في الحَدِيث:
أخْرَجَ الإمَام مُسْلِم في مُقَدِّمَة صَحِيحه:
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الله بْن نُمَيْر وزُهَيْر بْن حَرْب؛ ثَنَا عَبْد الله بْن يَزِيد؛ ثَنَا سَعِيد بنْ أيُّوب؛ ثَنَا أبو هَانِي؛ عن أبي عُثْمَان مُسْلِم بْن يَسَار؛ عن أبي هُرَيْرَة؛ عن رَسُول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم أنَّه قال [ سَيَكُون في آخِر أُمَّتِي أُنَاسٌ يُحَدِّثونَكُم ما لَمْ تَسْمَعوا أنْتُم ولا آبَاؤكُم، فإيَّاكُم وإيَّاهُم ].
دَرَجَة الحَدِيث:
صَحِيح، أخْرَجَه الإمَام مُسْلِم في مُقَدِّمَة صَحِيحه.
تَحَقُّق النُّبُوءَة:
صَدَقَ رَسُول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم، حَيْثُ ظَهَرَ في أُمَّته صَلَّى الله عليه وسَلَّم أُنَاس رَغِبوا لسَبَبٍ أو لآخَر في اخْتِلاق الأحَادِيث ووَضْعهَا ونِسْبَتها إلى رَسُول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم زُورَاً وبُهْتَانَاً، فجَاءوا بأحَادِيث لَمْ يَسْمَعها الرَّعِيل الأوَّل مِنَ الصَّحَابَة والتَّابِعِين، بَلْ لا يَقْبَلها العَقْل السَّلِيم ولا يَسُوغها الفِكْر المُسْتَقِيم، ما هي إلاَّ أحَادِيث مَوْضُوعَة مُخْتَلَقَة افْتَرَاهَا أُولَئِكَ الكَذَّابون والوَضَّاعون، وسَوْفَ يَفْتَرِيها أتْبَاعهم الَّذِين يَحْذون حَذْوهم ويَنْقِلون عنهم، الَّذِين قال رَسُول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم عنهم [ إنَّ كَذِبَاً عَلَيَّ لَيْسَ ككَذِب عَلَى أحَد، فمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدَاً فليَتَبَوَّأ مقْعَدَه مِنَ النَّار ]، وقال [ مَنْ تَقَوَّل عَلَيَّ ما لَمْ أقُل فليَتَبَوَّأ مقْعَدَه مِنَ النَّار ]، وقال أيْضَاً [ إيَّاكُم وكَثْرَة الحَدِيث عَنِّي، فمَنْ قال عَلَيَّ فليَقُل حَقَّاً أو صِدْقَاً، ومَنْ تَقَوَّل عَلَيَّ ما لَمْ أقُل فليَتَبَوَّأ مقْعَدَه مِنَ النَّار ]، ومَعْنَى [ إيَّاكُم وكَثْرَة الحَدِيث عَنِّي ] أي دُونَ تَثَبُّت مِنْ صِحَّة مَا يُقَال، ويُؤَكِّد هذا المَعْنَى قَوْله صَلَّى الله عليه وسَلَّم [ فمَنْ قال عَلَيَّ فليَقُل حَقَّاً أو صِدْقَاً ]، وقَوْله صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم [ مَنْ رَوَى عَنِّي حَدِيثَاً يَظُنّ أنَّه كَذِب فهُوَ أحَد الكَذَّابين ].
الأمْثِلَة التَّطْبِيقِيَّة (مُجَرَّد أمْثِلَة):
1. نَرَى اليَوْم كَثِيراً بَعْض مُحِبِّي الخَيْر يقومون بطَبْع وَرَق وتَوْزِيعه عَلَى النَّاس في المَسَاجِد والشَّوَارِع؛ أو يَنْشُرُونَه عن طَرِيق الإنْتَرْنِتّ عَبْرَ البَرِيد الإلِكْتِرُونِي أو المَوَاقع والمُنْتَدَيَات؛ بِهِ أحَادِيث تَحُثّ عَلَى الخَيْر وفَضَائِل الأعْمَال، دُونَ أنْ يَتَحَرّوا صِحَّة هذه الأحَادِيث، وهي في مُعْظَمها أحَادِيث مَوْضُوعَة، والبَقِيَّة البَاقِيَة ضَعِيفَة، وقَلَّمَا نَجِد بَيْنها حَدِيث صَحِيح.
2. غَالِبِيَّة ما يَنْتَشِر عَلَى البَرِيد الإلِكْتِرُونِي وفي المُنْتَدَيَات والمَوَاقِع مِنْ أحَادِيث أكْثَرها تُكْتَب بدون روَايَة أو سَنَد، بَلْ يَكْتَفِي كَاتِبها بقَوْله (عن رَسُول الله أنَّه قال، قال رَسُول الله، جَاءَ في الحَدِيث الشَّرِيف .. الخ)، ودَائِمَاً ما تُنْشَر هذه الأحَادِيث مُصَاحِبَة لعِبَارَة (انْشُرْهَا ولَكَ الأجْر، هذه أمَانَة في عُنُقك أن تَنْشُرها، اسْتَحْلِفُكَ بالله أنْ تُرْسِلها ... الخ) أو أي عِبَارَة مِن شَأنها التَّأثِير عَلَى القَارِئ بحَيْثُ يَعْتَقِد في صِحَّة الرِّسَالَة وأنَّه آثِم لو لَمْ يَنْشُرها لِمَا فيها مِنَ الخَيْر، ويَسْتَخْدِمون في ذَلِك بعض الأدِلَّة الصَّحِيحَة مِنَ القُرْآن والسُّنَّة التي تُحَذِّر مِنْ كِتْمَان العِلْم وضَرُورَة أدَاء الأمَانَة وما إلى ذَلِك لتَدْعِيم مَوْقِفهم، وما ذَلِك إلاَّ قَوْلٌ حَقّ أُرِيدَ بِهِ بَاطِل، وما ذَلِك إلاَّ لصَرْف القَارِئ عن التَّحْقِيق في صِحَّة الحَدِيث والرّوَايَة، حتى وَصَلَ الأمْر بكَثِير مِنْهُم إلى صِيَاغَة أدْعِيَة مِنْ عِنْد أنْفُسهم ونَسْبها إلى رَسُول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم، ثُمَّ يُحَدِّدون عَدَد مُعَيَّن لقِرَاءَة هذا الدُّعَاء أو عَدَد مُعَيَّن لنَشْره، ويَخْتَلِقون قِصَص ما أنْزَلَ الله بها مِنْ سُلْطَان عَلَى أنَّ مَنْ يَفْعَل سَيُجْزَى بجَزَاء كَبِير، وأنَّ مَنْ لا يَفْعَل سيُبْتَلَى بضَرَر عَظِيم، وهذا يُشَابِه بِدَع الصُّوفِيَّة في العَقِيدَة إنْ لَمْ يَكُن أصْله مِنْ عِنْدهم.
3. ما نَرَاه ونَسْمَعه عَلَى ألْسِنَة بَعْض الدُّعَاة وأئِمَّة المَسَاجِد والمُتَكَلِّمِين في الدِّين بغَيْر عِلْم وتَحْقِيق مِنْ الاسْتِشْهَاد بالأحَادِيث الضَّعِيفَة والمَوْضُوعَة والإسْرَائِيلِيَّات مِنْ أجْل تَرْقِيق قُلُوب النَّاس واجْتِذَابهم، وكأن الدِّين قد خَلا مِنْ كُلّ صَحِيح يَصْلُح لتَأكِيد المَعْنَى الَّذِي يُرِيدُونه حتى يَلْجَئوا إلى الضَّعِيف والمَوْضُوع، ولا نَعْرِف هَلْ هو جَهْلاً مِنْهُم وعَدَم إتْقَان في تَحَرِّي صِحَّة ما يَقُولُون؛ أمْ أنَّه عَمْد لتَحْقِيق هَدَفٍ ما، والأفْظَع مِنْ ذَلِك أنهم رَوَّجوا لسِلْعَتهم هذه بنَاءً عَلَى ظَاهِر لَفْظ قَالَ بِهِ بَعْض العُلَمَاء وهو [ الأحَادِيث الضَّعِيفَة يُؤْخَذ بها في فَضَائِل الأعْمَال ]، وكَالْعَادَة، أخَذُوا ظَاهِر اللَّفْظ وتَرَكُوا الشُّرُوط والضَّوَابِط، وكَالْعَادَة أيْضَاً، أخَذُوا برُخَص العُلَمَاء بِمَا يُوَافِق هَوَاهُم، والسُّؤَال: هَلْ عَجَزَت أحَادِيث رَسُول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم الصَّحِيحَة عن بَيَان فَضَائِل الأعْمَال والإرْشَاد إلَيْهَا حتى نَلْجَأ إلى الأحَادِيث الضَّعِيفَة والمَوْضُوعَة فنَسْتَقِي مِنْهَا فَضَائِل الأعْمَال؟ وإذا كَانَت الأحَادِيث الضَّعِيفَة والمَكْذُوبَة يُؤْخَذ بها في فَضَائِل الأعْمَال، فهَلْ مَعْنَى ذَلِك أنَّ الأحَادِيث الصَّحِيحَة يُؤْخَذ بها في خَبَائِث الأعْمَال أمْ ماذا؟ وما مَعْنَى فَضَائِل الأعْمَال أصْلاً؟ هَلْ هي صِلَة الرَّحِم، الصَّدَقَة، التَّقْوَى، حُسْن الخُلُق، بِرّ الوَالِدَيْن، أمْ أنَّهَا أُمُورٌ أُخْرَى لَمْ تَتَحَدَّث عَنْهَا الأحَادِيث الصَّحِيحَة؟ وحتى إنْ كان الحَدِيث الضَّعِيف لَهُ شَاهِد مِنْ حَدِيث آخَر صَحِيح، فإمَّا أنْ يَرْتَقِي الحَدِيث الضَّعِيف بهذا الشَّاهِد لدَرَجَة الحَسَن ولا يُعَدّ ضَعِيفَاً، وإمَّا أنْ يُسْتَشْهَد بالشَّاهِد نَفْسه وهو الحَدِيث الصَّحِيح ولا دَاعِي وَقْتَئِذٍ للضَّعِيف، وإمَّا أنْ يَكُون ضَعِيفَاً ولَيْسَ لَهُ شَوَاهِد يُتَقَوَّى بِهَا فلا يُؤْخَذ بِهِ ولا يُنْسَب لرَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم، وكُلّ هذا في الحَدِيث الضَّعِيف، حَتَّى العُلَمَاء الَّذِينَ أبَاحُوا اسْتِخْدَامه وَضَعُوا لَهُ شُرُوطَاً وضَوَابِط، ولَمْ يَقُولُوا نَفْس القَوْل في الحَدِيث المَوْضُوع، فأيْنَ هؤلاء المُقَلِّدِين عن جَهْل مِنْ قَوْله صَلَّى الله عليه وسَلَّم [ إنَّه لَيْسَ شَيْء يُقَرِّبكُم إلى الجَنَّة إلاَّ قَدْ أمَرْتكُم بِِهِ، ولَيْسَ شَيْء يُقَرِّبكُم إلى النَّار إلاَّ قد نَهَيْتكُم عَنْه, إنَّ روح القُدُس نَفَثَ في رَوْعي إنَّ نَفْسَاً لا تَمُوت حتى تَسْتَكْمِل رِزْقها، فاتَّقوا الله وأجْمِلوا في الطَّلَب, ولا يَحْمِلَنَّكُم اسْتِبْطَاء الرِّزْق أنْ تَطْلُبُوه بمَعَاصِي الله, فإنَّ الله لا يُدْرَك ما عِنْدَه إلاَّ بطَاعَته ].